للمرة الأولى منذ أكثر من عشرة أعوام على النزاع السوري، يجتمع كل من وزيري الدفاع التركي خلوصي أكار والسوري علي محمود عباس في موسكو، بحضور ومشاركة نظيرهما الروسي سيرغي شويغو ورفقة رؤساء أجهزة المخابرات في البلدان الثلاثة.
هذا الاجتماع المهم الذي عُقد الأربعاء الماضي يُعتبر ضرورياً بالنسبة لهذه الدول، وتوقيته حساس ويأتي في ظل ظروف دولية وإقليمية معقدة، حيث تستمر الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي ذات الوقت تسنّ تركيا أسنانها وتدق طبول الحرب ضد قوات سورية الديمقراطية في الشمال السوري.
روسيا راعية هذا الاجتماع، مهتمة كثيراً بمسألة تطبيع العلاقات بين سورية وتركيا، لأن ذلك سيعني بالنسبة لها تحقيق مكسب سياسي تستثمره في البعد الدولي، وكذلك وضع حد للنزاع السوري المستمر وغلق بعض الملفات المستعصية بالتعاون مع تركيا.
أنقرة أيضاً مستفيدة ومستفيدة جداً من التقارب مع الجارة دمشق، وسبق للرئيس التركي رجب طيّب أردوغان أن تحدث أواخر الشهر الماضي عن احتمالات عودة العلاقات مع سورية إلى مجراها الطبيعي كما كانت قبل النزاع الداخلي للأخيرة.
أردوغان الذي بدأت بلاده تعيد حساباتها السياسية وتطوي صفحة الخصومة والخلافات مع بعض الدول مثل مصر، قال إن السياسة لا تحتمل الخصومة الدائمة، واقترح على نظيره الروسي فلاديمير بوتين التدرج السريع في مسألة تعزيز الثقة بين أنقرة ودمشق عبر الوسيط الروسي.
صحيح أن الرئيس التركي هو الذي ألمح إلى إمكانية عقد اجتماع تحضيري بين رؤساء المخابرات، يتبعه اجتماع آخر بين وزراء الدفاع، ثم وزراء الخارجية، وبعد ذلك تعقد قمة بينه وبين الرئيس السوري بشار الأسد والروسي بوتين، وهذه التلميحات لا تأتي من فراغ.
أكثر ما يهم أنقرة في الوضع الحالي هو التوقيت، إذ يتزامن الاجتماع الثلاثي لوزراء الدفاع مع طلب تركي من روسيا استخدام الأجواء السورية لضرب معاقل التنظيمات الكردية في الشمال، وفي ذات الوقت تريد أنقرة من دمشق أن تساعدها في ضبط إيقاع الوجود الكردي والتحكم فيه.
يحتاج أردوغان إلى تسريع تطبيع العلاقات مع سورية من أجل استثمار هذا المنتوج السياسي المهم في زيادة شعبيته بين أوساط المجتمع التركي لكسب المعركة الانتخابية منتصف العام المقبل، خصوصاً وأن البلاد تمر بظروف اقتصادية صعبة والمواد الغذائية زادت بمعدل الضعف، وكذلك ارتفعت أسعار الطاقة بنسبة 20% في بلد يعتبر من أغلى دول العالم في أسعار المشتقات البترولية.
على الرغم من ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات قياسية في تركيا لم تشهده البلاد منذ أكثر من ربع قرن، إلا أن شعبية الرئيس التركي لم تتراجع لأسباب تتعلق بإدارته السياسة الخارجية مع روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بطريقة متوازنة، إلى جانب ضعف المعارضة وتشتتها وتركيز أردوغان على دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وكذلك الأسر المتضررة اقتصادياً من جراء تفشي جائحة «كورونا».
في النهاية يدرك الرئيس التركي أن مسألة ضبط حدوده وتطويق الوجود الكردي في الشمال السوري وحل موضوع اللاجئين السوريين في تركيا والتنسيق بشأن محاربة الإرهاب تستلزم إيجاد صيغة معقولة من العلاقات الطبيعية مع سورية، تقلل عليه كُلف فتح جبهة ضد قوات سورية الديمقراطية يحارب فيها وحده.
أما النظام السوري فهو معني بتحسين العلاقة مع تركيا، وإلا لما كان وافق على عقد اجتماع وزراء الدفاع في موسكو، لكن تشعر دمشق أنها غير مستعجلة في تطبيع العلاقات مع أنقرة وإهداء أردوغان تذكرة الفوز في الانتخابات الرئاسية بعد ستة أشهر ونصف من الآن.
ثمة مطالب سورية لتطبيع العلاقات مع أنقرة تتصل بتسليم محافظة إدلب وسيطرة الجيش على المعابر الحدودية في المناطق السورية، ووقف دعم المعارضة المدعومة من قبل الأتراك، ومساعدة دمشق في تخفيف أو رفع الحصار الدولي عليها من الغرب.
دمشق تحتاج إلى روسيا حتى تنتهي من كل مآسي النزاع وتفتح صفحة جديدة في مرحلة الاستثمار وإعادة الإعمار، ويهمها أن تكون على علاقة طيبة مع تركيا حتى ترتب وضعها الداخلي وتعالج موضوع المعارضة المدعومة من تركيا بالحسنى.
باختصار، يمكن القول إن تطبيع العلاقات بين البلدين سيعني تخفيف الصداع وحل المشكلات العالقة بينهما، وثمة تغير في السياسة الخارجية التركية باتجاه طي صفحة الخلافات مع دول الجوار، وتحديداً سورية لكن تحت عنوان توافقي على قبول الشروط المتبادلة.
كما هو الحال بالنسبة للشروط السورية، لدى تركيا شروط أو مطالب تتعلق بحماية أمنها القومي على الحدود مع دمشق وإيجاد حل للوجود الكردي، وطالما أن مشوار التطبيع ابتدأ باجتماع رؤساء المخابرات ووزراء الدفاع وتحت مسار دبلوماسي متدرج، فأغلب الظن أن الطرفين السوري والتركي على استعداد لتلبية الشروط والدفع قدماً بإنجاز المصالحة بينهما.