حكومة نتنياهو الجديدة هي حديث الساعة. وفي وسائل الإعلام، في الشرق والغرب على حد سواء، عبارات شائعة من نوع: "أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل"، وفي إسرائيل نفسها، تحذّر أوساط ليبرالية تزداد ضموراً مع مرور الأيام من مخاطر استيلاء المتطرفين، و"المجانين" على مقاليد الحكم. هذه كلها حقائق تقبل التفسير بطرق مختلفة، وفي حمولتها السياسية والأيديولوجية (وهذا ما يعنينا الآن) ما يحرّض على طرح أسئلة من نوع:
ما هو المعادل الموضوعي "للحكومة الأكثر يمينية"، و"المتطرفين"، و"المجانين"، في واقع إسرائيل، وسياستها، وساستها في هذه اللحظة، بالذات، ومَنْ هم القائمون على ترجمته بمفردات وأخيلة ودلالات، تشكّل مجتمعة تجلياته الخطابية؟
لا أعتقد، بقدر ما أرى، أن ثمة ما هو أبعد من الصعود إلى مرتبة القوّة الإقليمية يصلح معادلاً موضوعياً لكل ما يحدث الآن، معطوفاً على ميل إلى التطرّف يتناسب عكسياً مع ميل "العرب" إلى "الاعتدال" منذ معاهدة الصلح مع مصر، وحتى الآن.
لا يتسع المجال، هنا، للاستفاضة في موضوع الترجمة، والتجليات الخطابية، لذا نكتفي بما جاء في مقالة بعنوان "اتفاقات إبراهيم: إسرائيل قدوة للدول العربية"، نشرتها جيروزاليم بوست الإسرائيلية، في أيلول الماضي، في الذكرى الثانية للتوقيع على "سلام إبراهيم" في حديقة البيت الأبيض.
يردد الكاتب، ويدعى ديفيد واينبرغ، في المقالة المذكورة ما سمع من كلام على لسان أقرانه الإبراهيميين خلال زيارات متكررة إلى بلدانهم، ومفاده أنهم بصدد إعادة صياغة هوية العرب المسلمين، وصورتهم في العالم، وأن إسرائيل، التي تجمع ما بين التنوير والتقاليد تمثّل في نظرهم مصدر إلهام، وقدوة تُحتذى.
ولا ينبغي، في كل الأحوال، غض الطرف عن أشياء من نوع "إعادة صياغة هوية العرب المسلمين"، وحكاية إسرائيل، التي صارت قدوة ومثلاً يُحتذى لأنها "تجمع بين التنوير والتقاليد"، بوصفها مجرّد شطحات بلاغية تدخل في باب الكذب المُتبادل. السيد واينبرغ يعرف هذه الحقيقة، طبعاً، فالقبة الحديدية، ومهارات الإسرائيليين العسكرية، وقدراتهم الاستخباراتية، ونفوذهم في أميركا والعالم، وحملتهم المكشوفة ضد إيران، أهم ألف مرّة في نظر الإبراهيميين من التنوير والتقاليد.
ومع ذلك، ينبغي توسيع مجال النظر، فالكذب المُتبادل لا يُفسّر كل شيء. وثمة علامات مُفزعة، فعلاً. فلا يوجد في ميراث، وذاكرة، ومجتمع، وهوية وماهية، وجغرافيا، وديمغرافيا، الداعين والساعين إلى "إعادة صياغة هوية العرب المسلمين" مؤهلات تُذكر. وإذا كان في التذكير بحقائق كهذه ما يضفي على "إعادة الصياغة" نوعاً من الطموح والجنوح الفاوستيين (في أكثر صورهما ابتذالاً)، فإن فيها ما يحض على التحذير من مخاطر الميغالومانيا، أيضاً. وما أدراك إذا التحم الجنوح بالميغالومانيا تحت سقف واحد؟
لم ننته بعد. فموضوع هوية "العرب المسلمين"، وما يدخل في حكمها من صياغة وصناعة، ليست شيئاً جديداً، بل عمرها من عمر التوسّع الكولونيالي الغربي، وقد مرّت بمراحل مختلفة منذ أواسط القرن التاسع عشر، واكتسبت أهمية استثنائية بعد انهيار الدولة العثمانية، وازدادت حدة في زمن الحرب الباردة، وحتى يوم الناس هذا. وثمة مكتبة عامرة فعلاً، في هذا الشأن، بلغات أوروبية في الغالب.
على أي حال، كانت الفكرة السائدة بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة النفوذ الواسع لنظرية التحديث الأميركية، ضرورة العثور على "نموذج يحتذى" يقوم بدور القاطرة، ومصدر الإلهام، لبقية الدول المستقلة حديثاً في العالم العربي، وللحيلولة دون وقوعها في قبضة الشيوعية. كانت إيران وتركيا من أقوى المرشحين، دائماً، لهذا الدور في الشرق الأوسط، وبالنسبة للعالم العربي ظل الرهان عليهما محدوداً، لكونهما غير عربيتين، ولم تتوفر حتى لدى دولة عربية واحدة إمكانية القيام بهذا الدور، وثمة إيحاءات بأن مصر كانت مرشحة لدور كهذا بعيد إعلان الجمهورية.
على أي حال، سقط الرهان الإيراني مع سقوط الشاه، والمصري ما بين عامي 1952ـ 1954، واكتسب التركي قوّة دفع إضافية بعد صعود الإسلاميين، ولكن ميول أردوغان العثمانية، وبلاغته في المسألة الفلسطينية، على نحو خاص، أغضبت الأميركيين والإسرائيليين، وحدّت من نجاح "القدوة التركية".
والمشكلة أن مصر، خاصة بعد كامب ديفيد، كان لديها من المؤهلات ما يجعلها مرشحة طبيعية لدور القدوة، ولكن الأميركيين والإسرائيليين، وحلفاء هؤلاء وأولئك في الشرق الأوسط، شعروا دائما بالفزع من احتمال صعود مصر، وأرادوا لها أن تبقى مشلولة: "لا تعوم، ولا تغرق"، بلغة طيب الذكر محمد حسنين هيكل.
على أي حال، ومع كل ما تقدّم في الذهن، أعتقد أن ثمة صلة ما بين إحساس الإسرائيليين بالصعود إلى مرتبة القوّة الإقليمية، وأخذهم موضوع العمل على صياغة هوية "العرب المسلمين" على محمل الجد، لتحقيق أمرين أساسيين:
فض العلاقة العضوية بين المسألة الفلسطينية والعروبة، وكتابة تاريخ الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي بمفردات من نوع التطرف والانغلاق (صفات كارهي إسرائيل) والسوق والتجارة والتسامح (صفات محبيها) مع توابل إبراهيمية في كل الأحوال. وبهذا يتم تدمير فكرة السياسة نفسها، وتفسير الحروب، الصراعات القومية، بمفردات التسامح، وسوء الفهم، والجد المشترك، الإبراهيمي في حالة الشرق الأوسط.
وبهذا المعنى، يتجلى دور الإبراهيميين، أصحاب الأخ واينبرغ، سعاة ودعاة صياغة، هوية "العرب المسلمين" (وماذا عن المسيحيين؟) بوصفهم وكلاء في الباطن، ووسيلة إيضاح محلية، لإسرائيل، وقد صارت قدوة، ومصدر إلهام، ومثلاً يُحتذى. فاصل ونواصل.