مضى العام 2022 مخلفاً لما سيأتي بعده أثقاله واضطراباته، وملفاته الشائكة، بما فيها الملف الفلسطيني الذي يزداد تعقيداً.
• ففي العام الآفل ازداد الانقسام بشاعة، واتسعت هوته، ليس بين طرفيه فقط، بل حتى بين الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وصار لكل «إقليم» من «أقاليم» السلطة الفلسطينية ظروفه السياسية «الخاصة»، تحديداً في العلاقة مع دولة الاحتلال.
ففي الضفة الفلسطينية سلطة للحكم الإداري الذاتي، استبدلت (ولو آنياً) برنامج الخلاص من الاحتلال إلى مشروع تقدمه باعتباره مؤقتاً، يقوم على «الحل الاقتصادي» بانتظار «فتح أفق سياسي» يستعيد العملية السياسية وشعارها «حل الدولتين». وفي هذا السياق انعقدت اللقاءات على أعلى المستويات مع حكومة الاحتلال، اقتصر البحث فيها على حل القضايا المدنية، والعلاقات الاقتصادية، فـ«أموال المقاصة»، والتنسيق الأمني، في تسليم واضح من قبل الجانب الفلسطيني، أن هذا هو السقف الوحيد الممكن الوصول إليه، دون أن يتخلى عن شعاراته عن المقاومة الشعبية «السلمية»، ودون أن يفوت فرصة ليؤكد رفضه «للعنف والإرهاب»، وأن يتباهى أن دولة فلسطين وقعت اتفاقاً بهذا الشأن مع أكثر من 80 دولة في مقدمها الولايات المتحدة الأميركية، علماً أن الكونغرس الأميركي لم يسقط م. ت. ف، الممثل الشرعي والوحيد، من قائمة «الإرهاب»، بكل ما في هذا من تداعيات، تطال ليس الفصائل الفلسطينية، بل وكذلك الشعب الفلسطيني برمته.
وفي هذا السياق؛ يصبح مفهوماً للقاصي والداني، أن السياسة الرسمية في الضفة الفلسطينية، لم تغادر مطرحها في التزامها «اتفاق أوسلو» واستحقاقاته، خاصة الجانب الأمني، والاقتصادي، رغم ادعاء الجانب الفلسطيني أن إسرائيل تخلت عن الاتفاق، ورغم عديد الإنذارات (الجوفاء) أن الجانب الفلسطيني «قد» يقبل هو الآخر على وقف العمل بالاتفاق، إذا بقي الموقف الإسرائيلي على حاله. مضى على هذا «الإنذار» ما يقارب 3 سنوات، وما زال يكرر نفسه حتى أدرك الجميع، وفي مقدمهم إسرائيل والولايات المتحدة، أنه مجرد لغو سياسي هدفه تخدير مشاعر الشارع الفلسطيني، وبات واضحاً أن سقف ما تطمح إليه سلطة الحكم الإداري الذاتي هو ترسيخ بنيانها في ظل الاضطرابات السياسية المحلية والإقليمية والدولية، وهذا ما يفسر إصرارها على تعطيل قرارات المجلسين الوطني والمركزي منذ العام 2015، بمناورات وبدائل لا ترتقي إلى مستوى القرارات وتأثيرها السياسي، باعتبارها منعطفاً تاريخياً في مسار النضال الوطني الفلسطيني.
وحتى اللجوء إلى الشرعية الدولية، في الدورات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وما تكرره من قرارات وترسمه من خطوات جديدة، أثبت (على أهميته) أنه لم يعد كافياً في إحراز أي تقدم على الصعيد الميداني في العلاقة مع دولة الاحتلال، ولعل أقصى ما تثيره هذه القرارات أنها توفر الفرصة لممثل دولة الاحتلال في الأمم المتحدة، ليعبر عن مواقفه التافهة، ولرئيس حكومة دولة الاحتلال ليعيد تأكيد استخفافه، واستخفاف من سيقوده بقرارات الشرعية الدولية، فموازين القوى في الأمم المتحدة لن توفر، في ظل الحالة الراهنة للجانب الفلسطيني، سوى مكاسب معنوية، بينما في الميدان تتصاعد حدّة القمع الإسرائيلي بأشكاله المختلفة، بينما لا تتجاوز السلطة حدود المناشدة الدولية، وكلما أوغلت السلطة والقيادة الرسمية في هذا المسار كلما أضعفت موقفها السياسي في حسابات التحالف الأميركي الإسرائيلي، وكلما أضعفت حالة اليقين لدى الشارع الفلسطيني بقدرتها على تحقيق ما تعد به من أهداف؛ تفتح الأفق للخلاص الوطني.
بهذه السياسة ألحقت القيادة الرسمية ضرراً بالشرعية الفلسطينية، وبحيث أفسحت في المجال لبعض الأطراف لتشوش على الموقع التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو التشكيك بمشروعيتها، إذ شكل تعطيل قرارات المؤسسة التشريعية الفلسطينية انتهاكاً للنظام الأساسي لمنظمة التحرير ومجلسها الوطني ولجنتها التنفيذية، لصالح سياسة الهيمنة والتفرد، وتعطيل الشراكة الوطنية.
ولم يحمل العام الآفل أية إشارة تُنبئ بتغيير ما في السياسة الرسمية، بل حمل تأكيداً إضافياً على حالة الإفلاس التي تعيشها السياسة الرسمية الفلسطينية، تجديد رهانها على دور الدبلوماسية (وحدها) في تطوير الموقف الفلسطيني، فشكلت لهذا الغرض لجنة من حوالي خمسين شخصاً، من أجل وضع خطة للحملة الدبلوماسية المنتظرة، وعند الحديث عن ما يسمى «لجان» في ختام أعمال الاجتماعات القيادية الفلسطينية، ينتابنا الشك في صدق النوايا، فكل اللجان التي شكلت في هذا السياق (ولائحتها تطول) ماتت قبل أن تولد، وحتى ولو أنجزت ما يمكن إنجازه من تقارير ومشاريع، وتوصيات أودعت الإدراج العميقة في أقبية السياسة الرسمية.
على الجانب الآخر، لا يبدو المشهد مختلفاً كثيراً، فإذا كان سقف التحرك في الضفة الفلسطينية هو «الحل الاقتصادي»، فإن سقف التحرك في قطاع غزة هو «الأمن مقابل الغذاء»، وتحييد القطاع بانتظار أن تتوضح نتائج الاضطراب الدولي والإقليمي.
إذ بموجب مشاورات ومباحثات وزير الخارجية الأميركي توني بلينكن، مع القاهرة وعمان ورام الله وتل أبيب، في أعقاب معركة «القدس» ومعركة «سيف القدس» في العام 2021، استقرت المساعدة المالية لحركة حماس من الجانب القطري عبر معبر إيرز ومطار اللد، وقد أعيد توزيعها بحيث تتوزع بين حماس والقاهرة (10 مليون دولار) مقابل توفير الوقود للقطاع، وكما هو معروف، فإن حماس وهي تستورد الوقود من القاهرة بقيمة 10 مليون دولار، تعيد توزيعه في أنحاء القطاع على المواطنين، ما يوفر لها ربحاً إضافياً بحيث وصلت حصيلة البيع إلى 17.5 مليون دولار، أي بربح قدره 7.5 مليون دولار.
في الوقت نفسه؛ تنشط الحركة الاقتصادية بين القطاع والخارج، على خطي أيرز ورفح، كما ارتفع عدد الفلسطينيين من القطاع العاملين في إسرائيل إلى 25 ألف عامل، واتخذت على خطوط التماس إجراءات تضمن الهدوء وعدم وقوع «أية اختراقات» تعكر صفو الأجواء السائدة، في ظل تنسيق، فيه للقاهرة دور ملموس.
ولقد بات واضحاً في تصريحات قادة حماس، أن الرهان بات على الضفة الفلسطينية دون غيرها، هذا ما ورد في رسالة إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة، في نهاية العام المنصرم، دون أن يسقط من خطاب الحركة مواقفها من القدس والمقدسات، وتحرير كامل التراب الفلسطيني من «النهر إلى البحر».
في الضفة الفلسطينية مقاومة شعبية، في قطاع غزة وضع آخر، تحولت فيه مسيرات العودة وكسر الحصار إلى جزء من الماضي، ويبدو أن الدعوات لاستعادة هذا النوع من التحرك الشعبي، في الانخراط في المقاومة الشعبية المندلعة في الضفة، لم تلقَ آذاناً صاغية لدى سلطة الأمر الواقع في القطاع.
صحيح أن القطاع قد دفع غالياً ثمن حروب إسرائيل هذه، وأنه في حالة حصار، وتحت سطوة المدفع الإسرائيلي، لكن الصحيح أيضاً أن هذا كله من تضحيات لا يخرج القطاع من إطاره النضالي ودوره الشريك باعتباره أرضاً محتلة، كما هي الضفة أرض محتلة، وإن اختلفت علامات الاحتلال وأدواته.
إن صمت سلطة الأمر الواقع في القطاع، ورهاناتها على الضفة وحدها، من شأنه أن يثلم شعار «وحدة الساحات والجبهات»، وأن يضعف مصداقية هذا الشعار.
في ظل هذا الانقسام المدمر، وغياب استراتيجيات المواجهة الوطنية هنا وهناك، والرهان على الحلول المؤقتة والجزئية، شهدت الضفة الفلسطينية تصعيداً إسرائيلياً ارتكبت فيه دولة الاحتلال جرائم وحشية طالت كافة مناحي الحياة في الضفة، بما فيها القدس، وعملت على فرض وقائع ميدانية شديدة الخطورة على مسار المشروع الوطني، وأسفر التصعيد الإسرائيلي عن التالي خلال العام 2022:
• صادرت إسرائيل 113435 دونماً من الأراضي الزراعية الصالحة للاستيطان.
• وضعت مخططاً لبناء 12934 مستوطنة جديدة صادقت على 2220 وحدة استيطانية.
• مهدت الأراضي في جوار مدينة القدس لتوسيع الاستيطان، واقتلعت 12500 شجرة من أشجار الزيتون.
• اتخذت قراراً بما يسمى تشريع 65 بؤرة استيطانية في أنحاء الضفة الغربية.
• قتلت في مواجهات واعتداءات وعمليات إعدام متفرق 225 شهيداً فلسطينياً، معظمهم من الشباب والأطفال، بلغ عدد الشهداء في الضفة الغربية وحدها 146 شهيداً.
• كذلك اعتقلت خلال العام 7000 فلسطينياً أحالتهم إلى التحقيق، احتفظت بحوالي 1200 منهم قيد الاعتقال.
• أحالت أكثر من 400 معتقل جديد إلى التوقيف الإداري.
• وصل عدد الأسرى في سجون الاحتلال إلى 6500 أسير وأسيرة.
• هدمت قوات الاحتلال خلال العام الفائت 318 منزلاً، و583 منشأة فلسطينية.
(تقارير وإحصائيات مختلفة)
أما الانتخابات الإسرائيلية للكنيست الـ25، فقد شكلت بحد ذاتها نقلة نوعية في مسار المشروع الصهيوني، فشرع الأبواب السياسية والقانونية لتنتقل إسرائيل عبرها نحو بناء الدولة اليهودية القومية المتشددة، في ظل تحالف اليمين المتطرف والفاشي في حزبي «عظمة إسرائيل» و«الصهيونية المتدينة»، وأحزاب الحريديم.
وارتفعت أصوات تدعو إلى إعدام الأسرى، والقتل في الميدان على الشبهة، وإعلان الأراضي المحتلة أرض إسرائيل، وقد ترجمت ذلك حكومة التحالف اليميني المتطرف والفاشي شعاراتها، واستجابت لهذه النداءات والأصوات الزاعقة في توزيع المناصب الوزارية على الأحزاب الفاشية والمتطرفة، كما ترجمت ذلك في برنامجها الوزاري الذي لا يعدو كونه إعلان حرب شاملة على الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه، لصالح دولة إسرائيل الكبرى، الدولة القومية اليهودية المتشددة بديلاً.
وبالتالي؛ إذا كان العام 2022 قد سلم الراية للعام الذي يليه، فالمتوقع وفقاً لكل التقديرات، أن العام الجديد، سيكون أشد وطأة وأكثر وحشية، وأكثر دموية، وأكثر تعقيداً في التصعيد الإسرائيلي المرتقب .
على صعيد آخر، أدركت النخب السياسية والثقافية والمجتمعية، والصف العريض من أبناء الشعب الفلسطيني، حالة الانسداد التي تعيشها القيادة الرسمية، واللجنة التنفيذية، والسلطة الفلسطينية، وتهربها الدائم من مواجهة الاحتلال بالأدوات المطلوبة، كما أدركت حقيقة نوايا المؤسسة الرسمية في تعطيل قرارات المجلس المركزي، وتلطيها خلف ذرائع وادعاءات ومناورات عقيمة ليس من شأنها سوى توفير التغطية السياسية لسلطات الاحتلال، لمواصلة أعمالها العدوانية وإلهامها للأرض، وتقويض الأسس الميدانية لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، بما في ذلك التسريع في تهويد القدس وفرض وقائع تقسيمية على المسجد الأقصى، وطمس المعالم الوطنية للمدينة، وتوسيع مشاريع تهويدها.
أدركت النخب السياسية بحسها السياسي العميق؛ أن مواجهة التصعيد الإسرائيلي لا يكون فاعلاً إلا إذا كان ميدانياً، وتوسل كل أساليب المواجهة، وصولاً إلى استعادة العمل الفدائي في بعض مدن الضفة ومخيماتها، وانفجرت المقاومة الشعبية في أنحاء الضفة الفلسطينية من القدس، حتى نابلس وجنين شمالاً، وحتى الخليل وبيت لحم جنوباً، ونحو أريحا شرقاً، وفي رام الله والبيرة، وفي سلفيت وطوباس وغيرها من المدن الفلسطينية ومخيماتها، وباتت المقاومة الشعبية ظاهرة فلسطينية شاملة، امتد صداها إلى أنحاء الوطني الفلسطيني وعموم مناطق الشتات.
ورغم صلابة الموقف الشعبي، وتمسكه بحقه في النضال، وتجاوزه للقيادة السياسية، إلا أن المقاومة الشعبية ما زالت تفتقر إلى المزيد من أدوات الصمود والثبات، في مقدمها أن يتوفر لها الغطاء السياسي الوطني، بحيث تتبناها الفصائل والقيادة السياسية، استراتيجية وطنية لمواجهة الاحتلال، وتوفر لها الأطر المنظمة مقابل التخلي عن «اتفاق أوسلو» والتزاماته واستحقاقاته.
مع العام 2023، تقف المقاومة الشعبية، في ظل أوضاع فلسطينية مشتتة، أمام استحقاقات تاريخية، تقوم على نجاح القوى المنظمة في الانتقال إلى المستوى الذي تتوفر فيه عناصر المواجهة للمشروع الصهيوني في حلته الفاشية، كما ظهر في برنامج حكومة نتنياهو.
عام يمضي، وعام آخر، وما زلنا نكابد غياب الاستراتيجيات الوطنية هنا وهناك .