تعيش أوروبا حالة من الترقب الحذر لمآلات أسواق الغاز في 2023، في ضوء التطورات العاصفة والمتسارعة التي تشهدها منذ نحو عام كامل، وتحديداً منذ الرابع والعشرين من شهر فبراير 2022، على وقع تبعات الأزمة الروسية الأوكرانية، والتي خلفت ضغوطاً غير مسبوقة أثقلت كاهل دول القارة العجوز المعتمدة اعتماداً كبيراً على واردات الغاز الروسي، على اعتبار أن موسكو تمثل أكبر موردي الطاقة لأوروبا.
استطاعت الدول الأوروبية أن تعبر العام 2022 بمرافق تخزين مملوءة بالغاز بشكل شبه كامل، استعداداً لشتاء بارد، وعلى الرغم من ذلك لا تزال المخاوف قائمة حول المستقبل القريب، وسط تحذيرات من تفاقم أزمة الغاز فيما بعد شتاء2022/2023 الدافئ نسبياً حتى الآن.
لجأت دول أوروبا إلى توسعة الاعتماد على مصادر بديلة للغاز الروسي، وتمكنت من تسجيل زيادة ملحوظة في واردات الغاز المسال عبر مصادر مختلفة، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.. لكن الأزمة لم تنته بعد.. إليكم ما حدث في العام 2022، وسيناريوهات العام 2023 وما بعده:
بحلول منتصف الربع الثالث من العام الماضي 2022، نجحت أوروبا في تحقيق أهداف تخزين الغاز مبكراً، لتصل الاحتياطات إلى أكثر من 95 بالمئة قبيل دخول الشتاء الحالي، وذلك رغم خفض الإمدادات الروسية التي كانت تشكل نحو نصف احتياجات الاتحاد الأوروبي من الغاز.
ساعدت عدة عوامل الدول الأوروبية على تحقيق هذا المخزونات القياسية التي أوجدت ارتياحاً مؤقتاً بشأن ملف الغاز، كان من بين أبرز تلك العوامل:
• رغم انخفاض الإمدادات الروسية، إلا أنه استمر تدفق 30 مليار متر مكعب من الغاز الروسي خلال 2022
• زيادة واردات الغاز المسال إلى أوروبا بنسبة 58 بالمئة في 2022 لترتفع نسبة اعتماد الاتحاد الأوروبي على هذا النوع من الغاز من 20 بالمئة في 2021 إلى 35 بالمئة في 2022
• ضاعفت القارة العجوز وارداتها من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة (من 22 مليار متر مكعب في 2021 إلى 48 مليار متر مكعب في 2022) طبقاً لرئيسة المفوضية الأوروبية
• ارتفعت واردات الغاز عبر خطوط الأنابيب (غير الروسية) بحوالي 17 مليار متر مكعب وتحديدا من كل من النرويج والجزائر وأذربيجان
• يضاف إلى تلك العوامل تراجع الطلب على الغاز في أوروبا بنسبة تجاوزت الهدف التي وضعته دول القارة والبالغ 15 بالمئة
الصين قد تقلب الطاولة على أوروبا في أسواق الطاقة!
2023.. المخاوف لا تزال قائمة
وبرغم ما توفره تلك العوامل مجتمعة من ارتياح في الأوساط الأوروبية، ولا سيما في ظل شتاء دافئ نسبياً في الوقت الحالي، إلا أن بعضاً من تلك العوامل قد لا تكون متوفرة في العام المقبل وأولها كمية الغاز الروسي التي لا تزال تتدفق إلى القارة العجوز.
وفي وقت سابق، حددت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، خلال كلمة لها أمام الجلسة العامة للبرلمان الأوروبي في بروكسل في نوفمبر الماضي، ثلاثة تحديات رئيسية تجعل موسم ملء المخزون الجديد بنهاية هذا الشتاء "موسماً صعباً للغاية"، وهي:
• حال القطع الكامل لإمدادات روسيا من الغاز إلى أوروبا
• عدم نمو سعة الغاز الطبيعي المسال العالمية بالسرعة الكافية لتغطية الفجوة المتوقعة
• احتمالية امتصاص النمو في آسيا معظم الكميات الإضافية من الغاز الطبيعي المسال
وأمام تلك التحديات، جاءت تحذيرات "وكالة الطاقة الدولية"، في نوفمبر الماضي، من أن أوروبا تواجه خطر نفاد الغاز خلال شتاء 2023-2024، بما يتطلب تحركاً سريعاً لخفض الطلب.
كما أنه وفي ضوء أزمة الإمدادات الروسية فضلاً عن التنافس الأوروبي الصيني على شحنات الغاز المسال، فإن أوروبا مهددة بفجوة متوقعة بـ 30 مليار متر مكعب في إمدادات العام الجاري.
وحتى الآن لا تزال مخزونات الغاز في أوروبا في المستويات الآمنة، برغم لجوء خمس دول أوروبية (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وبولندا) لاستخدام مخزون الغاز، طبقاً لتقرير نشرته وكالة انترفاكس الروسية.
تفاؤل حذر
وبحسب تقرير التوقعات قصيرة الأجل لأسواق الغاز والطاقة الأوروبية، الصادر عن مجموعة "وود ماكنزي" للاستشارات في مجال الطاقة، فإنه:
• لا تزال أوروبا في طريقها لإنهاء هذا الشتاء بمستويات تخزين الغاز عند 38 بالمئة
• أوروبا مستعدة لتحقيق هدف الاتحاد الأوروبي للعام 2023 بامتلاك مخزونات تصل إلى 90 بالمئة بحلول شهر نوفمبر من العام الجديد
• من المتوقع أن يستورد الاتحاد الأوروبي وبريطانيا 164 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال في 2023، وهو رقم قياسي
وفي هذا السياق، يقول الكاتب المتخصص في الشؤون الأوروبية، رئيس تحرير "صوت الضفتين" بباريس، نزار الجليدي، في تصريحات لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن "قانون الطبيعة هو الذي أسعف أوروبا حتى الآن؛ على اعتبار أن الطقس حالياً ليس بذلك الشتاء البارد جداً.. بينما المخزون ينفد يوماً بعد يوم، بعدما لجأت دول أوروبية لاستخدام ذلك المخزون".
ويلفت في الوقت نفسه إلى اعتماد دول القارة العجوز على مصادر بديلة للغاز عوضاً عن الغاز الروسي، مشيراً إلى زيادة الواردات من بعض الدول مثل الجزائر، في وقت تعول فيه أوروبا على خطة واسعة من أجل تقليص استخدام الغاز، وتقوم في سياق ذلك بتبني حملات إعلامية وتوعوية واسعة لتخفيض الطلب.
ويشير إلى الجزائر بصفة خاصة، باعتبارها من أكثر الدول المستفيدة، وتسعى دول أوربية لإيجاد صيغة تفاهمات مشتركة معها لتعزيز واردات الغاز.
• بلغت صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي 56 مليار متر مكعب خلال العام 2022 على وقع ارتفاع الطلب بعد الحرب في أوكرانيا، وبعد أن تمت مراجعة عقود الجزائر مع عددٍ من البلدان الأوروبية مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
• الجزائر تأتي ضمن قائمة الدول الرئيسية المصدرة للغاز المسال إلى أوروبا (بحوالي 3.8 مليون طن من مارس إلى أكتوبر 2022)، وهي القائمة التي تتصدرها الولايات المتحدة الأميركية، بحسب ريستاد إنرجي.
• تضم القائمة دولاً عربية من بينها قطر التي بلغت واردات أوروبا (في الفترة من مارس حتى أكتوبر 2022) منها حوالي 13.7 مليون طن من الغاز المسال، بحسب ريستاد إنرجي.
• وزير البترول المصري توقع في نوفمبر أن تصل صادرات مصر من الغاز الطبيعي المسال خلال العام المالي الحالي إلى نحو 8 ملايين طن، 90% منها لأسواق الاتحاد الأوروبي ما يعادل نحو 7.2 مليون طن.
ويلفت الجليدي في معرض حديثه ، إلى أن واردات الغاز التي استطاعت الدول الأوروبية تأمينها "لا تنفي أننا أمام أزمة حقيقية كبيرة قادمة تنتظر أوروبا، رغم التعويل على تلك الواردات".
ويوضح الخبير في الشؤون الأوروبية إلى أن ثمة دولاً أخرى يمكن أن تشكل بديلاً للغاز الروسي، من بينها دول أفريقية، إلا أن هناك عديداً من الإشكاليات التي تجعل من البدائل المتاحة غير مناسبة بشكل كامل، من بينها التكلفة الباهظة جداً مقارنة بتكلفة الغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب، كما أن التفاهمات السياسية قد تلعب دوراً، بالنظر إلى ارتباطات وعلاقات بعض من تلك الدول بروسيا.
كلفة باهظة للبدائل
ويؤكد خبير العلاقات الدولية من بروكسل، محمد رجائي بركات، في تصريحه، أن البدائل (الحالية والمستقبلية) التي تلجأ إليها الدول الأوروبية لتعويض الغاز الروسي، عوضاً عن السؤال المرتبط بمدى إمكانية الاعتماد عليها في تغطية كامل الاحتياجات الأوروبية وفي ضوء المتغيرات بسوق الغاز، فإن ارتفاع كلفة تلك الإمدادات يظل إشكالية واضحة.
ويستشهد بإمدادات الغاز الواردة من الولايات المتحدة (والتي جاءت في المرتبة الأولى ضمن واردات الغاز إلى أوروبا)، وأسعارها الباهظة مقارنة بالغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب.
• الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان قد انتقد "بيع واشنطن للغاز بأربعة أضعاف السعر المحلي"، ووجه حديثه للولايات المتحدة والنرويج في أحد خطاباته، قائلاً: "ليس هذا المعنى الدقيق للصداقة"
• وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، انتقد "دول صديقة" على رأسها الولايات المتحدة، تطلب "أسعاراً خيالية" لتوريد الغاز
وفي السياق يشير بركات إلى خطة مفوضية الاتحاد الأوروبي الخاصة بتعدد موردي الغاز والنفط، جنباً إلى جنب وخطة خفض استهلاك الغاز بنسبة 15 بالمئة، بما يسهم في تغطية جانب من العجز الناتج عن خفض الإمدادات الروسية.
كما يلفت إلى الاعتماد على كل من واردات الغاز من الولايات المتحدة والجزائر، وكذلك احتمال قيام روسيا بتصدير الغاز إلى تركيا ومنها تتم إعادة تصديره لدول الاتحاد الأوروبي.
مصادر الطاقة البديلة
على الجانب الآخر، فإن خطط الاعتماد على مصادر الطاقة البديلة بالنسبة لأوروبا يُعول عليها في عدد من البلدان الأوروبية، جنباً إلى جنب وخطط خفض الاستهلاك المحلي.
ويقول المحلل الإيطالي، ماسيميليانو بوكوليني، في تصريحه، "يمكننا استخدام كميات أقل من الغاز بكفاءة دون التعرض لأضرار في قطاع الصناعة (..) هذا يعني أنه يمكن الاستغناء عن الغاز باستخدام مصادر طاقة أخرى.. وبالتالي نعتقد بأن خطر تراجع التصنيع قد انخفض في الوقت الحالي".
وعن الوضع في بلاده على سبيل المثال، يشير إلى أن مخزون الغاز بإيطاليا سيكون كافياً لفصل الشتاء الحالي، مشدداً على أن "المزيج الحالي من الواردات والمخزون المتوفر والإنتاج المحلي سيكون قادراً على تلبية جميع الاحتياجات (..) إيطاليا قد تجد نفسها في نهاية الشتاء بمستوى تخزين أعلى بكثير من المتوسط في السنوات الأخيرة".
يعود السبب الأول لهذا التحسن في تقديره إلى "المساهمة الإيجابية لواردات الغاز من روسيا"، بينما يعتبر أن المشكلة الأساسية هي أن "هذا تيار غير موثوق إلى حد ما، فكما رأينا في الأشهر الأخيرة استخدمت روسيا إمداداتها من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي كسلاح للابتزاز، وليس من المؤكد أنها لن تفعل ذلك مرة أخرى في المستقبل القريب".
ومع ذلك، فإنه يعتقد بأنه "باستثناء الأحداث غير المتوقعة، يمكن أن ينتهي الموسم في نهاية مارس 2023 مع 3 مليارات متر مكعب من الغاز المتبقي في مخزون بلاده".
المصدر: سكاي نيوز عربية