التنافس الأميركي- الصيني.. حتى في أشباه الموصلات

WSv8G.jpeg
حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

 

 

ثمة منافسة شديدة ومتسارعة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين في المجال التكنولوجي، في الوقت الذي تعتبر فيه الأولى الصعود التكنولوجي للثانية خطاً أحمر وتهديداً للأمن القومي الأميركي، وسط محاولات حثيثة لإبطاء هذا التقدم.
الولايات المتحدة التي أدركت معنى أن تتفوق الصين تكنولوجياً، سعت في السنوات القليلة الماضية إلى شن حرب تجارية ضد بكين، ومؤخراً كثفت هذه الحرب في قطاعين تعتبرهما استراتيجيين هما الفضاء وأشباه الموصلات.
بدون التطور في قطاع أشباه الموصلات لن تتمكن بكين من إرسال المركبات الفضائية وغزو الفضاء، ولن تتمكن أيضاً من تطوير قدراتها التكنولوجية والعسكرية، خصوصاً وأن أشباه الموصلات تعتبر اليوم "العصب الحساس" لصناعة الهواتف الذكية والروبوتات والأسلحة والمعدات العسكرية.
المُحيّر في هذا الموضوع أن الولايات المتحدة الأميركية التي اخترعت الترانزستور وشريحة أشباه الموصلات، وأنتجت 37% من حجم الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات عام 1997، بالكاد تنتج اليوم 10% من الإمدادات العالمية لهذه الصناعة الاستراتيجية.
لكن ما الذي يجعل واشنطن تعيد التفكير في مسألة توطين هذه الصناعة ودعمها حكومياً ودعوة القطاع الخاص الأميركي للاستثمار فيها؟ الجواب مرتبط بالاهتمام الصيني بتطوير هذه الصناعة وإنتاجها بالكامل داخل الأراضي الصينية في غضون عدة أعوام.
بسبب العولمة والبحث عن أسواق العمل الرخيصة، تبنت الولايات المتحدة مشروعات تصميم أشباه الموصلات، وقطّعت العملية الإنتاجية على أكثر من مرحلة، بحيث تتولى دول آسيوية مثل تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة تصنيع الشرائح الإلكترونية، ومن ثم تنقل إلى الصين لاختبارها وتجميعها وتغليفها.
هذه "العولمة" جعلت الولايات المتحدة تنقل صناعة حسّاسة وبالغة الأهمية إلى دولة مثل الصين التي أدركت مبكراً أن التطور التكنولوجي يستلزم نقل المعرفة، وهو الأمر الذي فعلته على مدار سنوات باستنساخ الصناعات الأميركية والأوروبية.
ولأن السوق الصيني كبير وينمو بقوة، فهو بحاجة إلى الاعتماد على أشباه الموصلات، الأمر الذي جعل الرئيس الأميركي جو بايدن يوقع في التاسع من شهر آب 2022 على قانون يضخ مساعدات بقيمة 52 مليار دولار لإعادة إنتاج أشباه الموصلات داخل الأراضي الأميركية، وبعدها بأشهر قليلة فرض قيوداً جديدة على تصدير الرقائق الإلكترونية الأميركية بما يشمل حركة الصادرات الأوروبية والآسيوية لكل ما يتصل بهذه الصناعة إلى الصين.
ليس غريباً أن ترتبط السياسة الخارجية بالبعد الاقتصادي، إذ يعج التاريخ بمئات القصص عن حروب طاحنة أسبابها اقتصادية، وعلى سبيل المثال تعتبر واشنطن دولة مثل تايوان مهمة جداً ومفيدة لأمنها القومي، لأن الأخيرة جزء لا يتجزأ من استراتيجية "العم سام" في إبطاء القوة الصينية في المحيط الهادئ، ومضيق تايوان أو ما يعرف باسم "فورموزا" يعد من أهم ممرات الشحن الرئيسية في العالم.
كذلك تعتبر تايوان رائدة في مجال صناعة أشباه الموصلات المتطورة، وتلك التي تعتمد عليها الصناعات الدفاعية الأميركية تنتج بشكل حصري في تايوان وأغلب صادراتها من هذه الرقائق المتقدمة يذهب للشركات الأميركية.
هذا يفسر الاهتمام الأميركي بتايوان وأولوية الدفاع عنها ضد أي عدوان صيني محتمل، وفي المقابل استعجال الأخيرة في تحقيق الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا المتقدمة وإنتاج ما يغطي حاجتها من هذه الصناعة مستقبلاً، في الوقت الذي تصرف أكثر من 300 مليار دولار على شراء الرقائق الإلكترونية.
سوق صناعة أشباه الموصلات ينمو بشكل خرافي في السنوات المقبلة، إذ بلغ حجم هذا السوق في عام 2021 حوالي 555 مليار دولار، وارتفعت مبيعات أشباه الموصلات إلى 633 مليار دولار عام 2022، ويتوقع أن يتخطى هذا السوق عتبة التريليون دولار بعد سبعة أعوام.
في الحقيقة وبعد انفتاح العالم على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والاعتماد على صناعات التشغيل الذاتي، تدرك القوى العظمى مثل الولايات المتحدة والصين أن التنافس على كل أشكال التكنولوجيا يحقق لها الأفضلية في عالم لا يفهم سوى منطق القوة المُطلقة.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن الولايات المتحدة ستكثف جهودها في طريقين، الأول يحقق لها استملاك كل أدوات المعرفة الحديثة، بما يتضمن التحويط على صناعة أشباه الموصلات وضبط حركة الإمدادات الدولية، والثاني يهدف إلى جعل الصين متأخرة في هذا القطاع وغير قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي.
لكن المشكلة أن الصين التي أحسنت في السنوات الطويلة من عمر العولمة توطين المعرفة ونقل الخبرات التكنولوجية والمعرفية إليها، قطعت شوطاً جيداً في صناعة أشباه الموصلات، وربما يحالفها الحظ في سباقها مع الزمن للصعود بهذه الصناعة إلى عتبة القمة والريادة.