علّي صوتك بالغنا لسّا الأغاني ممكنة

تنزيل (16).jpg
حجم الخط

بقلم: المحامي زياد أبو زياد

 

صديقي هو عامل طراشة ودهان على أعتاب الخمسينيات من العمر. تعرفت عليه عام 1995 حين عمل في طراشة منزلي الجديد الذي كنت قد بدأت ببنائه قبل ذلك ببضع سنوات، ومنذ ذلك الحين لم ينقطع حبل المودة بيننا رغم أننا قد لا نتواصل لبضع سنين. وصديقي، الذي لا أتحاشى ذكره بالاسم كي لا أحرجه، هو من احدى قرى منطقة بير زيت التي يتميز سكانها بالطيبة والبساطة ولكن بالذكاء والوعي السياسي وحضور البديهة.


وقد كان طالبا ً للتوجيهي حين كانت الانتفاضة الأول في أوجها فاعتقل وقضى وقتا ً لا بأس به في معتقل النقب الصحراوي (كتسيعوت) ، وحين انتهت مدة محكوميته شعر أنه كبر سنا ً على المدارس فاتجه نحو العمل وامتهن مع الوقت مهنة الطراشة والدهان. ويؤكد مازحا ً حرصه على طراشة ودهان الحيطان والشبابيك والأبواب وليس الأشخاص، لأن من يختار مداهنة الأشخاص، حتى وإن حقق بعض المكاسب الزائفة، يخسر كرامته ونفسه وذلك هو الخسران العظيم – حسب قوله –.


وصديقي طيب الذكر وبالرغم أنه لم يكمل دراسته إلا أنه نشأ على هامش احد التنظيمات اليسارية واستغل وقته في المعتقل بالمطالعة واكتساب المعرفة، ولكنه اعتزل النشاط السياسي المنظم بعد تجربته في النقب وظل يحتفظ بنوافذ عقله ووعيه السياسي منفتحة على كل الجهات. وهو متابع ومهتم ومتفاعل مع كل ما يجري على الساحة السياسية هذه الأيام.


التقيته قبل أيام في منطقة البالوع برام الله ودعاني لتناول فنجان قهوة فاخترنا مقهى في البلازا مول لأننا كنا قريبين منه ولأنه قريب من طريق الخروج من رام الله عبر ال DCO الى الطريق الالتفافي وكنت في عجلة من أمري للعودة الى العيزرية قبل بدء خروج الموظفين من أعمالهم والخروج من رام الله لما يخلقه ذلك من أزمات مرورية خانقة في مداخل رام الله وداخلها من الحكمة تفاديها.


وكالعادة بدأ باستفزازي لأنه لا يزال يصر على أنني جزء مما يحصل على الساحة الفتحاوية وما يمت بصلة للسلطة الفلسطينية رغم تأكيداتي بأنني منذ انتخابات 2006 ابتعدت عن السلطة وابتعدت هي عني واخترت لنفسي طريقا مستقلا ً، رغم أن أحدا ً لا يستطيع أن ينتزع من داخلي انتمائي الفتحاوي ولكن على طريقتي، وتاريخي وصلاتي الخاصة مع كل من الشهيدين أبو عمار وأبو جهاد.


تحدثنا عن كل ما يُشاع حول التوريث وعن الصراعات التي تعصف بحركة فتح ومآلات المستقبل وطرحت عددا ً من السيناريوهات المحتملة، محاولا ً طمأنته بأن الأمور لن تفلت من عقالها لأنه لا يصح إلا الصحيح وأنني أراهن على وعي شعبنا وبأن شعبنا سيرفض التوريث وسيصر على اختيار قيادته بنفسه. واستعنت ببعض ما أملكه من معلومات وحجج وبتجربة شعبنا عام 2005 والانتخابات الرئاسية آنذاك.


وكعادته كان متحمسا ً لتبني الرأي المعاكس. فهو لا يثق بالاعتماد على وعي الشعب وهو يصر على أن الناس انتهازيين وديماغوجيين ويتبعون مصالحهم وأن من يمكن أن يؤيدك ويهتف معك اليوم قد ينقلب ويهتف ضدك في الغد اذا رأى أن مصلحته الشخصية تقتضي ذلك. واستشهد بفترة الخلاف الذي وقع بين المرحوم أبو عمار وأبو مازن حين فُرض على الرئيس أبو عمار أن يتخلى عن صلاحيات رئيس الوزراء التي كان يريدها لنفسه ليؤسس لنظام رئاسي فلسطيني، وأن يسندها لشخص غيره ليصبح النظام الفلسطيني نظاما ً برلمانيا وليس رئاسيا. وأضاف صديقي قائلا ً بأن هناك بعض الأشخاص من سحيجة أبو عمار آنذاك أخذوا يرددون مقولته عن أبو مازن بأنه قرضاي فلسطين ولكن هؤلاء الأشخاص هم أنفسهم تحولوا بعد أن تولى أبو مازن منصب الرئاسة بعد انتخابات 2005 الى سحيجة أبو مازن – حسب قوله – وبالتالي لا مكان للحديث عن وعي الناس أو البناء عليه لأنهم انتهازيون ومتقلبون حيثما تميل الريح يميلون!!


ورغم قناعتي بأن هناك بعض المنطق فيما يقوله صديقي إلا أنني لم أستسلم وبقيت مصرا ً على موقفي بأن شعبنا واع ٍ وأن الأمور ستكون على خير وأنه لا زال هناك أمل بأن تُجرى انتخابات فلسطينية في حياة الأخ الرئيس محمود عباس وأن يكون هناك مجلس تشريعي منتخب يطبق أحكام المادة (37) من القانون الأساسي المعدل لعام 2003 وأن التغيير سيتم بسلاسة ويُسر وبشكل دستوري كما تم عام 2005 بعد أن تولى الأخ روحي فتوح الرئاسة مؤقتا ً لمدة ستين يوما عقب رحيل الرئيس الشهيد ياسر عرفات في تشرين ثاني 2004 حتى أجريت الانتخابات الرئاسية في التاسع من كانون الثاني 2005 خلافا ً لكل التوقعات الغاشمة أو المتشائمة.


كان لقاءً ممتعا ً وشاحذا ً للذهن وفيه دفء مودة واحترام لا يفسده خلاف في الرأي، وبعده انطلقنا كل الى غايته.

 

وفي طريق العودة الى العيزرية كنت أتساءل في نفسي كم من أبناء شعبنا ينشغلون في جلساتهم الخاصة في نقاش موضوع خلافة أبو مازن، ولماذا لا نعود للتمسك بتجربتنا الديمقراطية التي بدأناها عام 1996 والتي كانت نموذجا ً وقدوة للأشقاء العرب الذي اضطروا أن يقولوا لنا عام 2005 "كل الاحترام لنجاحكم في تجاوز الصراع على الكراسي لأنكم احتكمتم لقانونكم الأساسي وأفشلتم كل المراهنات على أنكم ستغرقون في بحر الصراع الدموي على السلطة"، وكيف يمكن أن يتعاملوا معنا مستقبلا ً اذا فشلنا في تكرار تجربة 2005 الرائعة، تجربة الانتقال السلس للسلطة دون صراع دموي على الكرسي، الذي لم تعد له اليوم قيمة أو صفة في ظل استمرار الاحتلال في تفريغ حلم الدولة من محتواه وسعي الاحتلال الى وضعنا في بوتقة هي أقل حتى من روابط القرى التي أسقطناها في مطلع الثمانينيات في حقبة كان أمل الاستقلال والتحرر من الاحتلال ما زال قائما وممكنا، حين كان لا يزال بالإمكان أن نردد مع محمد منير: "علّي صوتك بالغنا لسا الأغاني ممكنة".