منذ عدة سنوات تنبلج بعض الأفكار الهامة في تحدٍ محمود لحالة الكسل الفكري التي باتت حالة فلسطينية معتادة و»مقبولة» لدى النخب السياسية والثقافية على ما يبدو.
أكثر ما يميّز التبلّد الفكري في الساحة الفلسطينية هو المحاولات المتكررة لإعادة إنتاج الأفكار القديمة بصياغات جديدة دون أن تصل هذه المحاولات ـ إلاّ في حالات نادرة ـ إلى مستوى البحث في منهج التفكير نفسه، وفيما إذا كان هذا المنهج أو ذاك هو التفكير الذي يمكن أن يصل بنا إلى الإبداع الفكري أو التجديد الحقيقي للفكر السياسي والاجتماعي.
خذوا ـ على سبيل المثال ـ الأفكار التي تتحدث عن انتهاء أية إمكانية لحل الدولتين، سواء من زاوية مكانة القوى السياسية والاجتماعية التي تؤيد هذا الحلّ أو سواء خارطة الاستيطان وما خلقته من «وقائع» بات من الصعب إن لم نقل من المستحيل تجاوزها، أو حتى من زاوية ما بات للمستوطنين ـ وبالتالي ـ مصالحهم من قوة وسطوة في القرار السياسي إلى الدرجة التي يمكن أن تقود المجتمع الإسرائيلي إلى حرب أهلية أو داخلية طاحنة، وهو ما يجعل من حل الدولتين سبباً مباشراً لتفادي تلك الحرب مستقبلاً!!؟
ولو أمعنا النظر في كل ذلك سنلاحظ بوضوح ان القوى السياسية والاجتماعية التي يمكن ان توافق على حل الدولتين من داخل المجتمع الإسرائيلي إنما توافق عليه (أي على الحل) مجزوءاً ومنقوصاً ومشوّهاً وبما يحول الحقوق والأهداف الوطنية الفلسطينية ليس إلى أكثر من معازل سكانية مربوطة مع بعضها البعض بالحواجز والنقاط العسكرية والمستوطنات دون أية سيادة حقيقية على شيء فعلي، مقابل ثمن باهظ ليس أقله الموافقة الفلسطينية صراحةً أو ضمناً على شكل ما أو صيغة ما من يهودية الدولة، والتخلي الفعلي عن حق العودة (كحق من حيث المبدأ) إضافة إلى مسخ قضية «العاصمة» وتحويلها إلى مجرّد حكم بلدياتي تابع على بعض البلدات والمخيمات المحيطة بالمدينة، وتحويل مقدساتها الإسلامية والمسيحية إلى مجرّد شروط ممارسة العبادة الدينية.
ومع كل ذلك فإن أحداً لا يكلّف نفسه في البحث عن بدائل وخيارات لقراءة هذا الواقع أولاً، والتأكد من جدوى المكابرة في الاستمرار على نفس هذا النهج أو حتى التوقف عند ما يفرضه الأمر من تأمّل سياسي مطلوب وبقوة ودون إبطاء. وعندما يتم التوقف عند هذه الأمور من قبل بعض النخب تكون النتيجة التوهان بين بدائل وخيارات أكثر غموضاً من غموض حالة الدولتين، كأفكار مثل (الدولة ثنائية القومية) أو الدولة الواحدة أو الحل الديمغرافي كطريق للحل الديمقراطي أو غيرها.
كل هذه الأفكار هي أفكار هامة من حيث المبدأ لكنها ليست حصيلة لمراجعات معمّقة وليست نتاجاً لنقاش وطني مطلوب، كما أنها ملتبسة إلى درجة كبيرة فيما يتعلق بالاستعداد الوطني لهكذا انتقالات ـ إن تمّت ـ وملتبسة أكثر عندما لا يتم تحديد علاقة هذه الأفكار الجديدة بالوضع الإقليمي والدولي على حدٍ سواء. كما هو معروف فإن اتفاقيات اوسلو (بغض النظر عن الموقف منها آنذاك واليوم على حدٍ سواء) أدت من بين ما أدت إليه إلى تهميش الخارج في ضوء مصادرة دور المنظمة لصالح السلطة، كما أدت إلى «تجاوز» الداخل ـ أي الداخل الفلسطيني في إسرائيل. وبالتالي فقد حُصر جوهر الصراع في الضفة والقطاع وتمت بالتالي تجزئة وحدة القضية والشعب والارض من حيث لا يريد الشعب الفلسطيني ولا حتى القيادة الفلسطينية، وإنما تمت هذه التجزئة المؤقتة بصورة موضوعية أكثر من كونها قد تمت بصورة ذاتية أو برغبة فلسطينية مسبقة.
لا يستطيع أحد أن يُنكر محاولات القيادة الفلسطينية الجادة والمشروعة للتوصل إلى حلٍ متوازن أو حتى أن ينكر سعي هذه القيادة لخلق كيان وطني ممثلاً بالسلطة كمرحلة انتقالية نحو الدولة، ومع ذلك فإن إسرائيل نفسها هي التي دمرت الحل السياسي (على هشاشته) وهي التي تفرض اليوم إعادة الاعتبار لوحدة القضية والشعب والأرض، وهي نفسها إسرائيل من خلال سياساتها والفكر الذي بات يسيطر عليها ويسيّرها ومن حيث التحولات الكبيرة التي طرأت على خارطتها السياسية والاجتماعية هي التي باتت تفرض علينا الدخول في مراجعات جادة لاستشراف المستقبل.
على ما يبدو فقد أعيد أو ثمة محاولات جادة لإعادة تجديد المشروع الصهيوني على الأسس العنصرية والكولونيالية التي يستحيل معها التعايش مع مخرجات هذا المشروع وأهدافه، وأصبحت في ضوء ذلك الأهداف الوطنية الفلسطينية في مهبّ الريح إن لم تتمكن الحركة الوطنية الفلسطينية من تجديد المشروع الوطني وإعادة النظر فيه من زاوية إجراء تحولات كبيرة على مساره وأدواته وشبكة تحالفاته وأسس هذه التحالفات.
في هذا الاطار لا يكفي أن نقول بأن صمود الشعب على أرضه يشكل برنامجاً كفاحياً بحدّ ذاته بمقدوره أن يعيد التماسك للشعب الفلسطيني ويجمعه وراء أهداف ملموسة، وربما أن النضال ضد سياسة الأبارتهايد يشكل في المدى المرئي الموضوع الأهم على هذا الصعيد. الأفكار التي طرحها د. نديم روحانا في مقالاته الأخيرة والتي نُشرت في أكثر من موقع وفي مجلة الدراسات الفلسطينية (105) شتاء 2016 تعتبر بكل المقاييس نموذجاً هاماً للنقاشات التي يحتاجها المجتمع الفلسطيني وهي أفكار جديرة بالاهتمام وتستحق حوارات وطنية جادة. ويبدو أن مهمة تجديد المشروع الوطني فكرياً وثقافياً وبالتالي سياسياً يأتي في سياق مناقض لحالة الظلامية والتوحُّش التي تسود منطقة الإقليم، في حين أن محاولات تجديد الفكر الصهيوني تأتي بالتوافق المباشر وغير المباشر مع هذه الظلامية، الأمر الذي يعطي لفكرة تجديد المشروع الوطني أبعاداً في صلب التقدم الاجتماعي وفي صلب الدفاع عن الديمقراطية والقيم الإنسانية الخيّرة.