ثلاث عشرة حكومات تعاقبت على حكم إسرائيل في الفترة الممتدة من العام 1992 الى العام 2022، ثلاث من هذه الحكومات تبنت مقاربات أمنية مختلفة لمعالجة تهديد الفلسطينيين الذين يتواجدون على الأرض الممتدة من النهر الى البحر للأمن القومي الإسرائيلي، المقاربة الأولى كانت لرئيس الوزراء رابين، والثانية لرئيس الوزراء شارون، والأخيرة لرئيس الوزراء الحالي نتنياهو.
للوقوف على نقاط الإتفاق والإختلاف ما بين هذه المقاربات وإظهار عوامل وموجبات فشل المقاربة الثالتة، ستطبق هذه المقالة كنموذج للتحليل مفهوم أو نظرية الأمننة (ٍSecuritization Concept).
ويعتبر مفهوم الأمننة من المفاهيم الأمنية المعاصرة التي هيمنت على حقل الدراسات المتخصصة في تفسير الأمن في مجال العلاقات الدولية، لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة العام 1991، بعد أن كانت قد هيمنت على حقل الدراسات الأمنية النظرية الواقعية بنسخها التقليدية والبنيوية والكلاسيكية الجديدة، ويعود ظهور هذا المفهوم لمدرسة كوبنهاجن لا سيما في مساهمات "باري بوزان" و "اول ويفر" و"جاب دي ويلد".
ويقوم مفهوم الأمننة على ثلاث ركائز مفاهيمية أساسية، الركيزة الأولى هي الموضوع المرجعي (Referent Object) أي الموضوع الذي ينظر اليه كتهديد، والركيزة الثانية هي الفاعل المؤمنن او ممثل الدولة (Securitizing Actor)، أما الركيزة الثالثة فهي الجمهور الداعم (Audience) وتنقسم هذه الأخيرة الى قسمين الأول سياسي (داخلي/ خارجي) والثاني قانوني (خارجي/ داخلي).
ويشرح هذا المفهوم الكيفية التي يتمكن من خلالها ممثلو الدولة أو فاعلو الأمننة تحويل قضية معينة الى قضية أمنية أو تهديد أمني يستوجب المعالجة الأمنية بوسائل وإجراءات غير عادية.
وعلى ذلك يظهر تحليل مقاربة رئيس الوزراء الأسبق رابين وفق مفهوم الأمننة، أن الموضوع المرجع أو التهديد الوجودي للدولة يكمن في الدولة ثنائية القومية التي ستؤول اليها الأوضاع في نهاية المطاف تأسيسا على الواقع الديموغرافي، أما الفاعل المؤمنن فهو رابين نفسه بصفته رئيس وزراء وجنرال متقاعد من الجيش، والجمهور الداعم سياسياً وقانونيا فهو يتمثل هنا في الحكومة الخامسة والعشرين والبرلمان (الكنيست) وكذلك الجيش، كما يتمثل في عدم معارضة محكمة العدل العليا والمستشار القضائي للحكومة، وحول الإجراء فوق العادي الذي رأى رابين أنه الطريق الوحيد لمعالجة التهديد او الموضوع المرجع فيكمن في الإنفصال عن الفلسطينيين ضمن اتفاق سياسي، الأمر الذي تجلى في إتفاقية أوسلو التي كانت الأساس المنشئ للسلطة الفلسطينية العام 1994.
ومن جهتها مقاربة شارون فيظهر التحليل أن الموضوع المرجع أو التهديد يكمن في التموضع الإستراتيجي للدولة في الألفية الجديدة مقابل الفلسطينيين، إذ رأى شارون وبصفته جنرالا سابقا ووفقا لتقدير مؤسسة الجيش أن إسرائيل لا يمكنها مواجهة التهديدات الجارية والمتوقعة بذات الإستراتيجية التي يبدو أنها نجحت في مواجهة التهديدات ما قبل الألفية الجديدة، أما الفاعل المؤمنن هنا فهو رئيس الوزراء شارون، أما الجمهور الداعم فهو في حالة شارون ظل كما هو في حالة رابين (الحكومة رقم 29، والكنيست، والجيش)، وحول الإجراء فوق العادة الذي رأى شارون أنه الطريق الأنجع لمواجهة التهديد الناشئ من تغير التموضع الإستراتيجي للدولة هو الإنفصال عن غزة من جانب واحد حتى لو أدى ذلك إلى سيطرة حماس على غزة الأمر الذي تم العام 2007 أي بعد سنتين من الإنسحاب أحادي الجانب.
وحول مقاربة رئيس الوزراء الحالي نتنياهو وحكومته الجديدة فيظهر التحليل أن الموضوع المرجع هو ضعف الهوية أو السيد اليهودي ونمو الحضور الفلسطيني او وفقا لوصف بن غفير العبد الفلسطيني، أما الفاعل المؤمنن هنا فهو كل من نتنياهو وحلفائه بن غفير وسموتريش، والجمهور الداعم في هذه الحالة فهم الحكومة والكنيست، أما الجيش والمحكمة العليا فهم ليسوا كما هم في حالة مقاربات كل من رابين وشارون، وحول الإجراء فوق العادة الذي ستطبقه الحكومة فهو وعلى الرغم من عدم اعلان الحكومة عنه كخطة إلا أنه يمكن الإستدلال عليه من خلال جملة الإجراءات التي شرعت الحكومة بها لتغيير نظام الحكم لتأمين الشرعية لإجراءاتها نحو الفلسطينيين، إن داخل مناطق العام 1948، أو على صعيد المسجد الأقصى أو على صعيد المبنى التنظيمي والمرجعي للإدارة المدنية في الضفة الغربية، الأمر الذي يشير الى أنه إجراء يدور حول تجريم رفع العلم الفلسطيني في الداخل الفلسطيني، وحول إحتمالات الدفع نحو إنهيار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وحول تغير الوضع القائم في المسجد الأقصى، وحول الضم القانوني لمساحات واسعة من الضفة الغربية.
ما تقدم يظهر أنه فيما تتفق المقاربات الثلاتة على أن الفلسطينيين على الأرض الفلسطينية كانوا ولا زالوا وسيبقون التهديد الوجودي لمشروع صناعة إسرائيل كدولة يهودية، إلا أنها تختلف في وسائل معالجة هذا التهديد، إذ فيما رأى رابين أن الحل يكمن في الإنفصال ضمن اتفاق سلام، رأى شارون أن الحل يكمن في الإنفصال من جانب واحد عن غزة، يرى كل من نتنياهو وبن غفير وسموتريش أن الحل يكمن في الإنكار والتنكر لأي حق للفلسطينيين في فلسطين وتوظيف مزيد من القوة لإجبارهم على التسليم للرؤية والرواية الصهيونية الدينية في فلسطين.
كما يظهر ما تقدم أن المقاربة الثالتة تختلف عن سابقاتها من المقاربات في الدوافع المحركة للفواعل المؤمننة، إذ فيما كانت الدوافع الأمنية العسكرية هي المحرك للأمنة في مقاربات رابين وشارون، تصبح الأيدلوجيا العنصرية الصهيونية الدينية هي المحرك والدافع.
ويظهر كذلك أن المقاربة الثالثة تفتقد لإجماع كل مصادر الدعم اللازمة لإضفاء الشرعية على الموضوع المؤمنن كالجيش والقضاء، على عكس المقاربتين الأولى والثانية، الأمر الذي يفسر شروع الحكومة الجديدة مباشرة على إحداث تغيرات جوهرية في بنية الإدارة المدنية وجهاز الشرطة (حرس الحدود) والجهاز القضائي.
وهنا تجدر الإشارة الى أنه على الرغم من أن الإجراءات التي شرعت فيها الحكومة الجديدة خاصة على صعيد الجهاز القضائي قد دفعت المعارضة الإسرائيلية الى التظاهر في الشوارع ضد هذه الإجراءات بدوافع المحافظة على صورة إسرائيل (الديمقراطية) وليس بدافع وقف التغول المتوقع على الفلسطينيين خاصة وأن هذه المعارضة رفضت السماح برفع العلم الفلسطيني في هذه المظاهرات، إلا أنه من المؤكد أن هذه المظاهرات والإحتجاجات لن تدفع نتنياهو وحلفائه من الصهيونية الدينية الفاشية الى التراجع عن مخططهم الرامي إلى اعادة بناء النظام في إسرائيل وفق مفاهيم الصهيونية الدينية التي تدعي أنها تمتلك التفسير الأصح للمشروع الصهيوني في فلسطين، لا سيما وأن هذه المعارضة من وجهة نظر الإئتلاف الحاكم تنطوي على خيانة للدولة يتوجب اعتقال قيادتها كما تجلى في تصريحات الوزير عن حزب القوة اليهودية ألموغ كوهين والجنرال السابق تسفي فوغلمان، الأمر الذي يفتح الأبواب على مصراعيها لإغتيالات سياسية.
وفي الختام أجادل أنه فيما ستكون هذه الإحتجاجات من أهم عوامل فشل هذه المقاربة، إلا أن هناك الكثير من العمل أمام الفلسطينيين لإفشال هذه المقاربة وما تنطوي عليه من تغول متوقع عليهم، بل وللإنتصار عليها وعلى أصحابها، وهنا أردد ما قاله الأسير المنتصر القائد كريم يونس بأن الوحدة قانون الإنتصار والفرقة والإنقسام قانون الإندثار.