الفلسطينيون وكارثة الانقسام: بين أحزان السياسة ودموع الموَّال!!

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم:د. أحمد يوسف

 

اليوم، وسط هذا الصقيع البارد، أحط رحالي على عتبة العام الثالث والسبعين، وهي مسيرة طويلة عايشت فيها خلال طفولتي وشبابي ثلاثة حروب (1956-1967-1973م)، ثم أعقبتها ثلاثة أخرى عدوانية عاتية على قطاع غزة (2008-2012- 2014م) كنت فيها اتقلد منصباً حكومياً عالياً فيما كانت حركة حماس تدير مشهد الحكم والسياسة في قطاع غزة. وهناك -بالطبع- مواجهات مسلحة أخرى لم تتوقف من عامٍ لآخر، وأثارها الكارثية ما تزال تشهد على همجية إسرائيل وحجم المظلومية التي لحقت بالفلسطينيين داخل قطاع غزة.


لقد تعود الناس القول: "رأيُ المرءِ على قدر تجربته"، فإذا أضفنا لهذه الحروب والمعارك التي عايشناها ملاحم أخرى قمنا بتغطيتها بكاميراتنا في دولٍ أخرى عربية وإسلامية، فإن كأس التجربة يكون بنا قد فاض.


في الحقيقة، أنا كفلسطيني يستبد بي شوق الماضي وذكرى المخيم، وكلما جاورتنا حالة في السياسة واستعضت حواراتنا حولها عدنا إلى سجلاتنا نقلب صفحاتها بحثاً عن رؤية تمنحنا طوق الخلاص.


اليوم، وبعد أن انتكست السياسة الفلسطينية وتشرذمت فصائلنا النضالية، ولا تعكس مواقفها صوابيِّة التوجه وفرص النجاة، أخذتني الذاكرة وعادت بي لسنوات نكبتنا الأولى عام 1948، بكل آلامها وأوجاعها ولأواء معيشتها، وما سمعته عنها أو ما تمَّ رسمه لي من وقائعها المأساوية الحزينة، التي ما تزال تسكن بعض ذكريات طفولتي حتى اليوم ولا تغادرها؛ لأنها أول من استوطن صفحات وأحواض تلك المآقي البريئة من المشاهد والصور.


لا شكَّ أنَّ نكبة العام 48 كانت هي رواية الآباء والأجداد، وكانت لها طقوسها البعيدة عن حالة الوعي بحقيقة ما يجري حولنا، ولكن كان هناك أيضاً ما يطرح تساؤلات لا نفهمها في ذلك العمر، حيث إنَّ قدرة الاستيعاب والإدراك الوجداني في تلك الفترة كانت محدودة.


ربما حرَّكت هزيمة 1967 أكثر من صدمة فينا، وألقت بنا إلى الضفة الأخرى من النهر كي نغرق، ولكن لا شكَّ كان في داخلنا من له رأي آخر فعمل على انتشالنا، وكان يصرخ بنا: أفق.. هناك ما يستحق الحياة، فلا تتعجل الموت!!


شاهدت الموت أكثر من مرة، ولكنَّ يداه لم تتلقفني.. فهناك فيما يبدو ما يشبه لغز الملحمة، وهذا ما يُبقي الأمل ينام معشعشاً في ثنايانا على حُلمٍ جميل.


في عام 67 جاءت البشارة وانطلقنا، لينهض المارد، ويبدأ مشروع التحرير.. وفي عام 2006، تعاظمت البشائر والزغاريد، ولم يمض وقت طويل حتى تدافع القوم وعثرت أقدام الجميع!!


مع الانقسام عام 2007، اختلط الحابل بالنابل، ومنذ ذلك الحين ونحن لا نلوي على شيء!! من عثرة إلى عثرات، فالكلُّ يتخبط، والكلُّ متهمٌ ولا يظهر في مشهد الحكم والسياسة أنَّ هناك طرفاً سيفه أو ماله بريء!!


حاولنا بكل الطرق أن نسلك السبل التي تمنحنا بصيص أمل، واستجرنا بكل جار وحبيب ومن إلى جانبه قريب، من المشرق العربي في مصر وسوريا ولبنان وحتى المغرب وتونس والجزائر والسنغال إلى تركيا وإيران دون التوصل إلى خارطة طريق أو قرار يضعنا على بداية ذلك الطريق.


عدنا إلى مجالسنا.. لعل الحال يسعفنا، ولعل فطنة القبيلة وحكمة شيوخها من النخب وأصحاب الرأي أن تأخذ بأيدينا!!


عشرات البيوت جمعتنا مجالسها وديوانياتها بكلِّ ما فيها من أساطين الرأي المخضرمين وأهل السرِّ الباتع والفطنة والرشاد، وأنفقنا الساعات والليالي في حوارات لم يتخلف أحد من كلِّ هؤلاء إلا وأدلى بدلوه من الرأي وتقديم المشورة، "ولكن لا رأي لمن لا يُطاع"!!


إن حالة الفشل الذريع في إصلاح الحالة السياسية الفلسطينية، أخذتني إلى أنَّ أسرح بخاطري بعيداً إلى سنوات طفولتي في المخيم، حيث كان "المختار" يشيل على عاتقه همَّ المخيم وأوجاع الناس، وكان الكلُّ يدعو له إشفاقاً على ما يحمله من هموم: "الله يعطيك العافية يا مختار.. جمل المحامل والعبء كبير".


كان والدي يصطحبني معه، حيث كنت ابنه الوحيد الذي يفخر به ويباهي، إذ كان يتطلع إلى تنمية قدراتي من خلال "مجالس الرجال". وما أن يصل المختار إلى الخيمة، وكانت تسمى (المقعد أو الشِّق)، حتى يلتزم كلُّ من سبق الصمت، ويبدأ أحدهم بتجهيز القهوة والمرور بها على الحضور. يتحدث المختار بـ"خرَّافية السياسة" وآخر ما سمعه من المخاتير أمثاله ومن لهم علاقات بالحكومة. بالطبع، ليس هناك ما يبلُّ الصدى أو يسُّر الخاطر، إذ لا زال اليهود الصهاينة تتقوى شوكتهم، فيما العرب لا تُرجى منهم نُصرة.


وفي ظل هذه المقدمة من حديث السياسة، لا تتبقَ شتيمة واتهام بالخيانة إلا ويتم توجيهها للأنظمة والحكام العرب، الذين كانوا السبب وراء كلَّ ما حلَّ بالفلسطينيين من نكبة وتهجير.


وفي لحظة ما، وبعد أن يتعالى الهرج والمرج، يصرخ المختار: "يا جماعة.. فُكُّونا من ها السيرة ملعون أبو السياسة.. شغلونَّا ها الربابة والموال". ومع ألحان الربابة وكلمات الموال التي كانت تطوف بعيداً وتُهيج في الحاضرين ذكريات القرية والبيدر وأيام الهنا والعز زمان، تبدأ رحلة الدمع والآه.


كنت أشاهد دموع أبي وأبكي مثله، رغم أني لم أفهم شيئاً من كلِّ ما يتحدثون عنه. ولكني كنت ألحظ على وجه أبي الكثير من الارتياح بعد عودتنا للبيت. وبعد أن كبرنا، أدركت أن هذا يسمونه في عالم اليوم "عملية تفريغ نفسي" أو "التخفيف من الضغط النفسي"، وهو شيء مريح لعقل الإنسان وجسده.


صحيح؛ هناك ضغوط نفسيه ووسواس قهري وأزمات اجتماعية واقتصادية لا يعلم بها إلا الله، لكن لا بدَّ أن تستمر هذه الجلسات والأحاديث ولا نتوقف، لمنع الانهيار وإبقاء شعلة الأمل متقدة.


الجميل في هذه المجالس أنها تأتي بالجميع، وتفتح لكلِّ صاحب رأي أو تنظيم مساحة لمشاركة الآخرين حجته، والقول: أشيروا عليَّ أيها الناس!!


في هذه الديوانيات أو المجالس نؤسس ركائز الحكم الرشيد، وإن كان ما نطرحه ليس أكثر من مجرد أفكارٍ للتداول، نحاول أن نوطنها في ذهنية كلّ واحد منّا لتقبل التعايش في شراكة سياسية وتوافق وطني إنسانيٍّ كريم، والإقرار بإمكانية الوحدة مع التعدد، وأن الايدولوجيات السياسية وإن تنافرت مساراتها لا بدَّ أن تلتقي عند خط النهاية، وهذا هو الوطن يا سادة.