قلنا في المقال السابق: «إلى أين يُمكن أن تصل «المعارضة» الإسرائيلية»، بأن هذه المعارضة تحاول بكل السبل والوسائل إبعاد (شبح) القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني من كامل قوس الصراع بينها وبين حكومة «الثالوث الجديد»، وتحاول أن «تحشر» الصراع مع هذا «الثالوث» في الإطار «الديمقراطي» العام، وفي الإطار الداخلي (اليهودي)، قبل أي شيء آخر، وهي ــ أي المعارضة الإسرائيلية ــ ليست بوارد طرح حقوق أهلنا في الداخل حتى المدنية منها تحديداً، لأن الحديث عن حقوقهم الوطنية والقومية كان وما زال، وسيظلّ إلى مديات مستقبلية، أيضاً، مسألة أقرب إلى «المحرّمات» السياسية في عرف هذه المعارضة، ناهيكم طبعاً أن هذه المعارضة ليست على أي استعداد من أي نوعٍ كان ــ حتى الآن ــ لمجرّد الحديث عن وجود مشكلة اسمها الاحتلال، وهي ــ أي المعارضة ــ ما زالت تتماهى من حيث الجوهر، ومن حيث المضمون، وأحياناً من حيث الشكل نفسه مع أُطروحات وبرامج ورؤى وتوجّهات «ثالوث العنصرية والشرّ والتطرّف الفاشي».
لا يفترض أن تكون هذه النظرة إلى حقيقة «المعارضة» الإسرائيلية مسألة خلافية بين كل مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، سواء في الداخل أو الأرض المحتلة أو الشتات، ولا يفترض مطلقاً أن يرتهن الموقف الوطني لاعتبارات «نجاح» هذه المعارضة من عدمه في صراعها مع «مثلث الاستيطان والعنصرية والفاشية السافرة».
ومع ذلك فالمسألة لا تنتهي هنا، وعدم الارتهان شيء، لكن هو شيء آخر العمل على أن تتحوّل هذه المعارضة إلى معارضة لنهج وبرامج ورؤى وتوجهات «اليمين القومي والديني» باعتبار أن هذا التحول ممكن وضروري، وربما حتمي عند درجة معينة من احتدام هذا الصراع.
كيف ولماذا؟
قلنا في عدة مقالات سابقة إن الصراع داخل المجتمع الإسرائيلي بصرف النظر عن التموضع «السياسي» لمكوّنات وأطراف هذا الصراع من الحقوق الفلسطينية في جوانبها المدنية والوطنية قد بدأ يحتدم على طبيعة الدولة، وعلى نظامها السياسي، وقلنا في المقال السابق تحديداً إن «الدولة ونظامها السياسي» قد استنفدت بالكامل مقومات بقائها و»صمودها» في السنوات الأخيرة، وإلّا ما معنى إجراء خمسة انتخابات متتالية حُسمت «بشقّ الأنفس» في الانتخابات الأخيرة لصالح «ثالوث الفاشية الجديد» بفارق مقعدين فقط، وكان يمكن أن لا يصل هذا «الثالوث» لهما لولا «المصادفات السياسية الخاصة».
فلو انتهت الانتخابات الأخيرة على صورة معاكسة ومغايرة لهذه النتيجة التي انتهت إليها، فهل كانت ستنتهي أزمة الدولة والنظام السياسي، أم أنها كانت ستتفاقم أكثر مما هي عليه الآن؟
الجواب، بالقطع: لا.
هذا يعني أن أزمة الدولة والنظام السياسي أصبحت تحتاج إلى إعادة بناء، لأن الدولة ونظامها السياسي «ينهاران» في الواقع، ومن حيث الجوهر، بصرف النظر عن بقاء واستمرار هياكلها المؤسّسية، وأن الحل لا يكمن في مسألة من يحتلّ سدّة الحكم، ومن يجلس في المعارضة، وإنما ــ وهذا هو الأهمّ والجوهري والحاسم ــ كيف للنظام أن يعمل بفعالية، وأن يضمن ويؤمّن الاستقرار، وأن يحافظ على كيان الدولة، وأن «يحافظ» على أمنها، وعلى السلم الأهلي بداخلها، وأن «يتصدّى» للتهديدات التي تواجهها!
هذا الاصطفاف الذي نراه اليوم، أي هذا التموضع السياسي ليس هو نفسه هو الذي «سيخوض» غمار إعادة التوافق على أُسس بناء الدولة وعلى نظامها السياسي الذي ينسجم مع إعادة البناء هذه.
الصراع الذي يدور في إسرائيل اليوم هو التحول الأكبر فيها منذ قيامها في ضوء ثلاثة عوامل ولّدته طبيعة المشروع الصهيوني:
الأول، هو في تحول التهديد الداخلي إلى «الخطر» الأول على الدولة ومشروعها كلّه.
لم يكن يحتل هذا التهديد صفة التهديد الأول، ويكاد يكون «الأوحد» إلّا في ضوء التحولات التي راكمها المجتمع الإسرائيلي على مدى سنوات بأن أعاد هذا التحول الإجماع الإسرائيلي (الصهيوني) على رفض «السلام» إلّا على قاعدة «حكم إداري» للسكان، مقابل سيطرة كاملة على الأرض ومواردها، وبشروط عيش «اقتصادية معينة منزوعاً منها أي صفة سياسية وطنية».
أقصد أن الوصول إلى هذا الإجماع، والذي سميناه تماهي «الوسط»، وحتى «اليسار» مع برامج «اليمين» قد أدّى في الواقع إلى فقد «الوسط» و»اليسار» لهويته السياسية الخاصة، وتحول إلى فرع سياسي خاص لـ «اليمين»، وهو ما مكّن «اليمين» من طرح برنامج «الحسم» لإنهاء وتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية.
بمعنى آخر، لماذا يريد «اليمين الفاشي» أن ينقضّ على «الديمقراطية»؟ هل فقط من أجل إنقاذ بنيامين نتنياهو، أم أن هذا الانقضاض هو من أجل «الحسم» نفسه، بما في ذلك إنقاذ نتنياهو وأرييه درعي وغيرهما؟
ولماذا أصرّ إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش على تولّي مهام هذا الحسم بالذات؟
ولماذا هذه السرعة الجنونية في إقرار القوانين؟ ولماذا يريدون إقصاء دور القضاة بالمحكمة العليا؟ هل كل ذلك من أجل نتنياهو ودرعي أم من أجل «الحسم» وليس غيره؟
أما الثاني، وهو تأكيد للتحول الأول، فهو محاولة «تقليص» صلاحيات الجيش، والحدّ من «القدسية والهالة» التي أحاطت به على مدار عشرات السنين، وإسناد صلاحياته ومهامّه التي كانت تبدو فوق الجميع إلى الشرطة وأذرع الأمن الأخرى، في مؤشّر على إدراك «اليمين» العميق و»اليقيني» لجوهر التحول الأول ومفاعيل وتبعات هذا التحوّل.
لم يكن «اليمين» ليقبل مثل هذا التحول أو ليُقدِم عليه لولا أن مؤسسة الجيش وجنرالاته باتوا على يقينٍ تام بأن الصدام مع هذا «اليمين» آتٍ لا ريبَ فيه، وأنّ «المسّ» بهيبة الجيش وصلاحياته، ومهامه، أيضاً، هو مسألة على درجةٍ خطيرة من الأهمية، وبما يتعلق بـ «الحسم» نفسه في الأرض المحتلة، وبما يتعلق ببرامج الاستيطان في الجليل والنقب، إضافة إلى الاستيطان المنفلت في الضفة الغربية.
وإلّا لماذا تسحب صلاحيات الجيش أساساً من «شؤون الإدارة المدنية» وتتحوّل إما إلى «وزارة المالية»؟!، وإما إلى «وزارة الأمن القومي»؟!
هنا نعود إلى مسألة «حسم» الصراع، وإلى برامج «اليمين» لهذا «الحسم».
وهنا يخطط «اليمين الفاشي» لإسناد دور «الترحيل» مستقبلاً إذا ما أُتيحت الفرصة المواتية له لمؤسسات وأذرع الأمن وليس للجيش!
التحول الثالث وهو أن «اليمين» لم تعد تهمّه صورة إسرائيل كدولة «ديمقراطية»، ولم يعد يهم هذا «اليمين»، ولم يعد يولي للمجتمع الإقليمي والدولي أي أهمية تُذكر، وهو بات على «قناعة» راسخة، وخصوصاً بعد دروس الحرب الروسية الأوكرانية كما يراها.. بأن فرض الوقائع على الأرض هو الأهم من أي مجتمع دولي، ومن أي مؤسسات دولية بما فيها مؤسسات القانون الدولي نفسها.
وعندما نُمعن النظر حتى في هذه المسألة فإن الأمر كله يتعلق بـ «حسم» الصراع بالرغم من أنف المجتمع الدولي ومؤسساته.
إذاً فإن الصراع القائم في إسرائيل ــ في هذه المرحلة الابتدائية ــ منه يبدو وكأنه فعلاً على مسائل «ديمقراطية» من حيث المظهر، لكنه من حيث الجوهر هو صراع على فلسطين، وشعبها، وحقوقها.
سيحتدم هذا الصراع، سيعلو ويهبط، وستجرى محاولات تلو المحاولات لتصويره وكأنه «صراع داخلي على مسائل ديمقراطية هنا وهناك» إلى أن يأتي اليوم، وهو لم يعد بعيداً لنكتشف جميعاً بأن «حسم» الصراع هو جوهر المسألة كلها، وأن كل القضايا «الديمقراطية» التي نراها في قلب هذا الصراع ليست سوى المظهر الخارجي، والقشرة التي تُخفي أساس الصراع وأصله وفصله الأول.
والموقف الوطني المطلوب هو عدم الارتهان، ولكننا نراهن ويجب أن نراهن على أن يؤدي هذا الصراع إلى العودة الحتمية لجذوره الحقيقية.