في احتدام الصراع بين الصهيونية الدينية والليبرالية

حجم الخط

بقلم:د. عامر الهزيل


 

لكي نفهم ما الذي يحدث في إسرائيل، اليوم، ولماذا يحتدم الصراع بين اليمين الصهيوليبرالي ويمين اليمين الصهيوديني ومعهم الحريديين، لا بد من العودة إلى ظروف النكبة وتأسيس الصهيونية الليبرالية العلمانية للدولة اليهودية بنظامها القانوني "اليودقراطي"، وطبيعة ديمقراطية الشعب السيد.

جرى ذلك بعد ما وافقت إسرائيل من خلال وثيقة رسمية على قرارات هيئة الأمم المتحدة 273 و181. قرارات اشترطت الاعتراف بها بوجوب سن دستور أساسه قانون مساواة ومواطنة متساوية. دستور يشكل مرجعية تتحكم في علاقة السلطات الثلاث التشريعية، القضائية والتنفيذية، بما يضمن العدالة والمساواة في دولة كل مواطنيها.

مباشرة وبعد المصادقة على قرار الاعتراف بإسرائيل (273) في 11.5.1949، قاد اليمين الصهيوليبرالي العلماني الانقلاب على شروط قرارات هيئة الأمم باستبدال مطلب سن دستور ديمقراطي بقرارات لجنة هراري، والتي أوصت بسن قوانين أساس لإقامه دولة يهودية نظامها يجوز وصفه بـ"يودقراطي" (ديمقراطية لليهود) يشكل اليهود فيه طرفي الصراع على السلطة ويتأقلم قانونيًا وسياسيًا مع كل مرحلة.

بكلمات أخرى، اليمين الصهيوليبرالي العلماني الأشكنازي هو الذي أقصى العرب وغير اليهود من شرعية الدولة والمواطنة الحقة، في حين أحكم سيطرته على مقاليد الحكم مهمشًا اليهود الشرقيين. ولأن طبيعة نظام اليودقراطية يفتح المجال للحراك السياسي اليهودي الصرف من أسفل لأعلى، والعكس صحيح، شكلت انتخابات العام 1977 انقلابًا حقيقيًا بصعود اليمين الجبوتنسكي لسدة الحكم وتأسيس دولة إسرائيل الثانية، وقاعدتها الشعبية العريضة من اليهود الشرقيين والمتدينين. حالة تعاظمت في كل انتخابات لاحقة مع بلورة متصاعدة لتديين الصهيونية ومعها قوة اليمين الصهيوني الديني والحريديين، ما استدعى الصهيوليبرالية الأشكنازية إلى خلق كوابح لسيطرة اليمين الصهيوديني من خلال تقوية صلاحيات المحكمة العليا، وفرض آليات انتخاب قضاتها بشكل يضمن استمرار هيمنة اليمين الصهيوليبرالي الأشكنازي، ليس على قاعدة الحقوق والواجبات العامة فقط، بل تعدتها لتطول إدارة الدولة بما تشمل التشريع ومسلكية الحكومة نفسها، ما مكن هذا التيار من استمرار سيطرته وهيمنته النسبية حتى مع فوز الليكود وحلفائه، وذلك من خلال السلطة القضائية وموظفي وإعلام الدولة العميقة، على حد تعبير إيرز تدمور في كتابه "لماذا تصوت يمين ويحكمك (تحصل على) اليسار" (2017)، وهو كتاب شكل خارطة طريق لعمل يمين اليمين الصهيوديني لحسم الصراع على معالم الدولة اليهودية، وكذلك مع الفلسطينيين.

خلافا لمناحم بيغن وموقفه من الدولة العميقة بقوله "الحكومات تتغير ويبقى موظفو الدولة"، اتبع بنيامين نتنياهو منذ العام 1996 نهج تغيير واقع الدولة العميقة بموظفيها بما ينسجم مع الولاء له ولحكم اليمين والصهيودينية، لكنه اصطدم في سلوكه الشخصي والسياسي مع المحكمة العليا، التي كانت لها السيطرة التامة على لجنة تعيين القضاة بما يتوافق ورؤية اليمين الصهيوليبرالي الملتزم بثوابت انطلاقة الدولة اليهودية وحدودها السياسية والجغرافية، بين النهر والبحر، مع الحفاظ داخليًا على هيمنة تياره، وعالميًا على وجه إسرائيل وترويجها على أنها الديمقراطية الوحيدة في مستنقع ديكتاتوريات المنطقة العربية الإسلامية.

قراءة لعمل لجنة انتخاب القضاة تظهر إلى أي مدى تحكمت النخبة الأشكنازية في حياة الدولة، في وقت يمثل فيه اليهود الشرقيون نسبة 80% وأكثر من قواعد أحزاب يمين اليمين الصهيوديني ومعهم الليكود الحاكم.

ويتبين من تركيبة المحكمة العليا بين سنوات 1950- 2022 هيمنة التيار اليميني الصهيولببرالي الأشكنازي على عدد قضاة المحكمة العليا. وعليه، لم يكن يوما رئيس المحكمة من اليهود الشرقيين كذلك الأكثرية الساحقة من محاميي الدولة الرسمية هم أشكناز مثلهم المستشارون القضائيون للحكومات المتعاقبة.

على هذا وبسببه يحتدم الصراع، اليوم، كما يلخصه وزير القضاء الحالي، ياريف ليفين، بقوله إن "الديمقراطية ليست ديكتاتورية الأقلية التي تفرض سياستها وقيمها من خلال محكمة العدل العليا". وعليه طرح خطة الانقلاب القضائي للمرحلة الأولى والتي تشمل:

- يشغل رئيس المحكمة العليا ونوابه مدة ست سنوات دون تمديد.

- تغيير لجنة انتخابات القضاة. سيكون للحكومة فيها سيطرة كاملة (7 من 11).

- إلغاء حجة المعقولية، أي أن المحكمة لا تستطيع إلغاء قرارات الحكومة على أساس معقوليتها أو عدمها.

- إلغاء المحكمة العليا لأي قانون لا يتم إلا بمشاركة جميع مجلس القضاة والقرار بأكثرية 80%.

- إقرار بند التغلب على المحكمة العليا، بحيث يستطيع الكنيست إعادة سن قانون ألغته المحكمة بأكثرية 61 عضو كنيست.

وفي ذلك تقول رئيسة المحكمة العليا، إستر حيوت، إنه "يريدون تغيير نظام إسرائيل الديمقراطي... ما هو مقترح تدمير لمنظومة القضاء في إسرائيل". ويرد عليها ليفين نفسه: "لن يعين القضاة أنفسهم بعد اليوم في غرف مغلقة وبدون بروتوكول".

بدوره علق القاضي المتقاعد ورئيس المحكمة العليا السابق، أهارون باراك، بقوله، إنه "ما بين ميراثه السياسي القومي الكبير وحل مشاكله الشخصية، اختار بنيامين نتنياهو الثانية. لو كنت قاضيًا وأقرت هذه الاقتراحات لقدمت استقالتي، لأنه لم يبق لك بعد هذا غير أن تكون بوق لرئيس الحكومة والكنيست. اقتراحات وزير القضاء هي عقد مسمم، إذا ما تم ستكون بداية خراب البيت الثالث وستقود إلى حرب أهلية بين الأخوة".

لا نعتقد ذلك، لأن الصراع بين اليمين بقيادة يائير لبيد وبيني غانتس من جهة، ومن الأخرى يمين اليمين بقيادة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، ليس على العدالة والمساواة داخل الدولة اليهودية، ولا على وضعية وحقوق العرب فيها، أو السلام العادل وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، بل على السيطرة والقوة والقناعات الإيديولوجية بين اليهود الأشكناز والشرقيين، بين المتدينين والليبراليين، وعمومًا بين يمين اليمين ممثلاً بالصهيودينية والحريدييين، واليمين المتمثل بالصهيوليبرالية داخل بيت الدولة اليهودية الذي أغلق أبوابه في وجه غيرهم.

لذلك، ستكون حلول وسط بدورها لن تمنع من إسرائيل الثالثة المضي قدما في تطرفها وفاشيتها، والإصرار على حسم الصراع مع الفلسطينيين قبل العام 2050، لتبقى الدولة اليهودية الكبرى بين النهر والبحر. وعليه، يخطئ من يعوّل على حرب أهلية بين اليهود لأن بنادقهم موحدة ضد الشعب الفلسطيني؛ ألم تغتال وتسجن حكومة بينيت - عباس - لبيد الأخيرة أكثر من أي حكومة سبقتها منذ العام 2004؟!

لهذا كله، يجب إجماع المواطنين العرب على مطلب سن دستور أساسه قانون مساواة ومواطنة متساوية وفقًا لقرار هيئة الأمم 273 بما يكفل تنظيم العلاقة بين السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، وحقوق المواطنين كاملة.

عن "عرب ٤٨"