ثمة ما يبرر التوقّف عند الحدث الإسرائيلي، للتعليق على جوانب بعينها لا تحظى بما تستحق من عناية واهتمام. المقصود بالحدث عودة نتنياهو إلى سدة الحكم، وتشكيل حكومة توصف بالأكثر تطرّفاً، ويمينية، في تاريخ الدولة الإسرائيلية. ولتكن البداية مع قرار المحكمة العليا طرد وزير، سبقت إدانته في جرائم فساد، من الحكومة، وتنفيذ نتنياهو للقرار.
ومع تسليط ضوء على هذا القرار، معطوفاً على تظاهر عشرات الآلاف من الإسرائيليين ضد نتنياهو وحكومته، والمعارضة الواسعة في وسائل الإعلام، واحتجاج عسكريين وساسة وقضاة سابقين، نكون قد وضعنا تحت المجهر أحد اهم المصادر التقليدية لتوليد رأس المال الأخلاقي للدولة الإسرائيلية، ونظام الحكم فيها: حيوية وتعددية حقلها السياسي.
وثمة، هنا، ما يستدعي ثلاث ملاحظات وثيقة الصلة: أولها، تآكَلَ الكثير من الرصيد الأخلاقي، ولم تعد أدوات توليده بالكفاءة ذاتها التي وسمتها في العقود الأولى للدولة. وثانيها أن عودة نتنياهو، ومع هذا النوع من الشركاء تعرّض ما تبقى من الرصيد للتبديد، ولا تعطل آليات توليده وحسب، بل وتنفي الحاجة إلى رصيد كهذا أيضاً. وثالثاً، أن التعبير عن المعارضة بالتظاهر، وفي وسائل الإعلام، وأخيراً بقرار من المحكمة العليا، يتجلى في نظر المعارضين كوقفة أخيرة قبل الطوفان.
لكل من هذه الملاحظات دلالات قريبة وبعيدة، لا يتسع المجال لذكرها بالتفصيل. لذا، نكتفي برؤوس أقلام منها: كانت "الديمقراطية" الإسرائيلية (بصرف النظر عن رأينا فيها) من مصادر توليد الرصيد الأخلاقي. وقد تجلّت في ممارسات من نوع: فصل السلطات، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع، والتداول السلمي للسلطة، وسيادة القانون، واستقلالية القضاء، كدليل (في الدعاية، أيضاً) على التفوّق الأخلاقي للإسرائيليين على أعدائهم. لم يكن هذا كله حاسماً وضرورياً في العلاقة مع الديمقراطيات الغربية وحسب، بل كان حاسماً وضرورياً في إنشاء هوية المواطنة، وتعزيز شرعية النظام السياسي، أيضاً.
ومع هذا في الذهن، تبدو عودة نتنياهو إلى سدة الحكم أقرب إلى محاولة انقلابية منها إلى تقليد تداول السلطة، حتى وإن بدت كعملية تبادل روتينية. فدوافعه شخصية، في المقام الأوّل، وفي القلب منها محاولة الإفلات من حكم مُتوّقع عليه بالسجن، ووسيلته تغيير النظام القضائي نفسه، وتجريده من صلاحيات وسلطات، بطريقة تمكنه من النجاة.
ومع ذلك، ثمة ما هو أهم. فلم تكن عودة نتنياهو، ومع هذا النوع من الشركاء ممكنة، دون وجود رافعة اجتماعية أوصلته، وشركاه، بأصوات الناخبين، إلى سدة الحكم. ولا يبدو من السابق لأوانه القول إن وجود هذه الرافعة، بالذات، هو مصدر الخطر في نظر المعارضين، لأنها مسكونة بسياسات الهوية، وترى فيها المصدر الوحيد لتوليد الرصيد الأخلاقي للدولة ونظامها السياسي.
وبما أن الرافعة الاجتماعية لنتنياهو وشركاه تتكون في الغالب من أشخاص ولدوا بعد العام 1967، يبدو الاحتلال في نظرهم واقعاً لم يعرفوا غيره، وتبدو امتيازاتهم على حساب الخاضعين للاحتلال جزءاً طبيعياً من نظام الكون، إضافة إلى حقيقة أن الاقتصاد السياسي للاحتلال، وسياسات الاستيطان، والأمن، تشكل جزءاً عضوياً من بنية، ودورة، الاقتصاد الإسرائيلي.
وبالقدر نفسه، وُلد هؤلاء وترعرعوا في دولة قوية، مع إحساس بأن العالم مدين لهم (يجب أن يركع على قدميه ويطلب المغفرة، كما قال ميناحيم بيغن ذات يوم) وبالتالي فلا شيء يعادل القوّة كرصيد للدولة، ونظامها السياسي، خاصة في ظل انهيار الحواضر العربية، وازدهار العلاقات، بما فيها الأمنية والعسكرية، فوق الطاولة وتحتها، مع الإبراهيميين.
والواقع أن هذه التحولات تنسجم، أيضاً، مع تحوّلات في العالم. فاعتناق الإنجيليين الأميركيين لإسرائيل وقضيتها، (بصرف النظر عن تعريفها) يتجاوز موقف اليهود الأميركيين أنفسهم. لذا، تمتاز العلاقة مع اليمين الأميركي بقدر أكبر من السلاسة. وهذا يصدق على اليمين الأوروبي مع ألوان طيف مختلفة، وكذلك في مناطق أُخرى من العالم كالهند والبرازيل (في عهد بولسينارو). القاسم المشترك بين الإسرائيليين واليمين في العالم هو سياسات الهوية.
هل سينجح نتنياهو وشركاه في تغيير النظام القضائي؟ هل سيتمكن المعارضون، بمن فيهم قضاة المحكمة العليا، من إحباط المحاولة الانقلابية؟ هذه أسئلة مفتوحة يصعب الجزم فيها بطريقة حاسمة. ولكن ما يمكن الجزم بشأنه يتمثل في حقيقة أن المستقبل للكتلة الديمغرافية التي أوصلت نتنياهو، وشركاه، إلى سدة الحكم. وأن الانقلاب إذا لم يتحقق هذه المرّة على يديه هو وشركاه فسيتحقق في مرّة قادمة.
وفي السياق نفسه: هل ينوب العداء للسامية، واضطهاد اليهود، الذي بلغ ذروته في كارثة الهولوكوست، في توليد الرصيد الأخلاقي للدولة الإسرائيلية بدلاً من الديمقراطية كنظام للحكم؟ لا أعتقد أن هذا ممكن.
اضطهاد اليهود والهولوكوست كانا دائماً من مصادر الرصيد الأخلاقي. والمشكلة، هنا، أن سياسات الهوية معادية لقيم الديمقراطيات الليبرالية الغربية، وللنظام الديمقراطي بشكل عام. وهذه القيم، بالذات، هي التي حاول الإسرائيليون التماهي معها ليكونوا جزءاً من أوروبا والعالم الحر.
مع أسئلة كهذه نرصد الملامح الداخلية العميقة لأزمة الدولة الإسرائيلية ونظامها السياسي، فيها ما يتجاوز نتنياهو، وشركاه، ووقفة تبدو أخيرة لسدنة النظام القديم.