إسقاطات " الحرب " في أوكرانيا على فلسطين

79b49d91080c6f66e3de8c2e3d827910.jpg
حجم الخط

بقلم: د أحمد قطامش

 

مقدمة :هناك وعي شائع أن الحرب بين الغرب وروسيا على الأراضي الاوكرانيه بعيدة عن فلسطين، والمقاربة أدناه تحاول أن تمحو هذا الالتباس وتكشف أن ما يدور " هناك" إنما يؤثر على ما يدور " هنا".


ينبغي بداية تصويب المصطلحات : فالعملية الخاصة الروسية وان طالت فهي لم تصل مستوى الحرب بعد ، فالحرب تعني تدمير كييف ومراكز القيادة فيها، وهذا يقع ضمن قدرة الترسانة العسكرية الروسية، ونموذج ذلك ما فعلته أمريكا ببغداد،من جهة، أما من الجهة الأخرى، فثمة 50 دولة تتحالف ضد الروس وفي قلبها الحلف الأطلسي ودول تقع جغرافياً في الشرق ( اليابان، كوريا الجنوبية، استراليا ..) وكلها تقدم السلاح والمال والخبراء والمرتزقة، وان كانت أمريكا هي العمود الفقري وصاحب القرار، بما منع الخارجية الأوكرانية من مواصلة المفاوضات مع الخارجية الروسية في أنقرة، على غرار ما فعلته هيلاري كلينتون عندما خاطبت المعارضين السوريين ( لا تلقوا السلاح ).


وشخصياً نشرت مقالتين اقرب لبحثين في البدايات وقلت فيما قلت أن أمريكا تسعى لتغطيس روسيا في حرب طويلة الأمد وان " العقوبات " حرب اقتصادية بغية تدمير الاقتصاد الروسي وتفكيك الدولة ومحطوتها وهي التي تصل مساحتها 1/7 مساحة الكرة الأرضية وتتمتع بثروات هائلة لا تتوقف عند النفط والغاز انتاجاً ومخزونا بل وتصاب قارات بأكملها بالجوع أن لم تصلها الحبوب الروسية والسماد ناهيكم عن الذهب والمعادن والأخشاب ...


العتمة لم تتوافق مع حسابات الحرامي
الاقتصاد الروسي مستقر رغم خسائره والبطالة مجرد 3.7% وعوائد النفط ارتفعت عام 2022، وروسيا فتحت بوابات الصين والهند (37% من البشرية ) للصادرات الطاقية فارتدت " العقوبات " على أوروبا أكثر بكثير من روسيا إلى درجة أن تخسر أوروبا تريليون دولار ويبلغ التضخم 11% وبعض السلع 30% بما دفع قطاعات شعبية للنزول للشارع ، أما بوتين فزاد تأييده من 61% إلى 78% رغم الدعاية الاعلاميه المعادية في عواصم الغرب وامتداداتها لكل ما هو روسي حتى للثقافة والموسيقى ....


أما سردية أن الجيش الأوكراني يجرف الانتصارات والجيش الروسي يتقهقر يكفي القول أن الأربعة أقاليم التي انضمت لروسيا تصل مساحتها 100الف كم2من أصل 600 الف هي مساحة أوكرانيا وان تضخم الجيش الأوكراني من 240 ألفا إلى 750 ألفا وتدفق السلاح الغربي إليه لم يمنع الرئيسة الأوروبية من الاعتراف أن حجم قتلاه فاق 100 ألف وحتى اللحظة يعمد الروس إلى استخدام محدود للصورايخ والطائرات، وفي ضوء تسليح الغرب للجيش الأوكراني بأسلحة هجومية من المتوقع أن يدفع الروس بأسلحة أكثر تدميرية ، كما لاحظنا تاكتيكهم الهجومي في الأسابيع الأخيرة .


ومهما يكن من أمر، فالجيش الروسي هو الجيش الثاني بعد الأمريكي ، بل ويتفوق عليه في الأسلحة النووية، فيما ترتيب الجيش الأوكراني يقع في المرتبة 17 عالميا.


" وصيرورة " الحرب وسّعت الأهداف بعد الانخراط شبه المباشر لحلف الأطلسي، فالروس يخوضون اليوم حرب وجود من جهة والسعي لخلق نظام دولي جديد من جهة أخرى. أما أمريكا فتسعى لدحر العقبه الروسية والتمهيد للتصدي " للمنافس الأول والصراع الإيديولوجي " مع الصين.


ولأن الأمر على هذا النحو لا يشارك في العملية الخاصة سوى 15% من الجيش الروسي ، ومع اشتداد القتال أعلن بوتين عن ( وضع القوات الإستراتيجية النووية في حالة تأهب ) وأضاف إليها صواريخ عابرة للقارات لا يمكن التصدي لها وبعضها انتقل إلى بلاروسيا (6 ملايين نسمة ) ومناورات مشتركة وقيادة عسكرية مشتركة ...


وأمريكا نشرت المزيد من القوات على الحدود الروسية وفي الطريق انضمام السويد وفنلندا بحدودها الطويلة مع روسيا ، إلى الحلف الأطلسي، ولوحت التصريحات من هنا وهناك بالحرب النووية التي لم يسمع بها الناس منذ ستة عقود ( أزمة الصواريخ في كوبا التي انتهت بسحب الصواريخ الروسية من كوبا وسحب الصواريخ الأمريكية من تركيا وتعهد أمريكا بعدم الاعتداء على كوبا ).


بداهة لا احد في العالم يتمنى مواجهة نووية ذلك أنها تنذر بكارثة تنهي الحياة على الأرض، ولن تفيد هنا دراسة من جامعة أمريكية أن فرص الحياة تتوافر في نيوزلندا والأرجنتين . ويقول الخبراء أن للحرب منطقها فهل يمكن أن تتفلت ديناميتها من السيطرة ؟


لا غرو أن "الحرب" الدائرة ( مطحنة دم) أكاديمي روسي ، وهناك تصميم روسي على الانتصار وتصميم أمريكي على الانتصار ، وهذا العام 2023 ربما يكون انعطافيا بهذا الاتجاه أو ذاك . وكمراقب غير مختص أنشأت في " البحثين " السابقين أن الثقافة الروسية لا تعرف الهزيمة وان لدى روسيا قوة ردع إستراتيجية كفيلة بحماية حدودها القومية ، وهي رفعت حجم الجيش مؤخراً إلى 1.5 مليون استجابة لمتطلبات خط التماس مع أوكرانيا واستعدادات الناتو الذي بات على حدودها خلافاً لتعهد الرئيس الأمريكي بوش للرئيس الأسبق غورباتشوف عام 1992 بعد التقدم شرقا ...


النتائج المتخيلة " للحرب" في أوكرانيا
أوكرانيا مجرد ملعب أما النتائج فهي عالميه. والافتراض المحبب لدى " الغرب" أن روسيا منهكة وسوف ترفع الراية البيضاء، وهناك أصوات منبهرة بالنموذج الأمريكي تقول ( أن هذا القرن هو قرن أمريكا ) وكما جرى تفكيك العرب في سايكس – بيكو سوف يجري تفكيك الاتحاد الروسي وهذا المخيال واسع البيكار لا يتردد بالقول لقد سقطت الاشتراكية ولا مكان للدولة القومية الساعية للاستقلال والتنمية المستقلة ... وانتم رأيتم ما فعلنا بفنزويلا وسوريا والعراق وإيران وكوبا ويوغسلافيا ... وكما ابعد نيكسون الصين عن الاتحاد السوفيتي فمصالح الصين مرتبطة اليوم بالغرب ( 700 مليار $ تبادل تجاري مع أوروبا واقل بقليل مع أمريكا ) ، بطارية من الديباجات التي لا تستوعب المتغيرات (والتعاسة في السياسة هي عدم تمثل المتغيرات ) لينين . والروس يتقدمون بمقاربة أخرى: لقد أفشلنا العقوبات ومحاولات عزلنا وقررنا تأسيس 50 فرقة عسكرية جديدة أكثر فتكاً وشأن الرئيس الصيني تشي بمناسبة انتصار الثورة تجول على مركبته بين قطاعات الجيش مردداً ( نحن قادرون) فيردد بوتين ( كل شيء من اجل الجيش إننا منتصرون) وعلاقة الشراكة بين الدولتين ( تتجاوز التحالف) وكلاهما (ضد الهيمنة وأحادية القطبية وضد الثقافة الأمريكية ) وركنان في منظمة البريكس وشنغهاي وبنك البنى التحتية وينظمان مناورات مشتركة ...


( السياسة لا تقاس بالزمن بل بالمتغيرات )ماركس والمتغيرات جلية فالهيمنة الأمريكية في انحسار ومحور المقاومة العالمي ( روسيا والصين ) في صعود وهذا حال محور المقاومة الاقليمي وتسع سلطات يسارية في القارة اللاتينية ... والدولار يتقلص استخدامه .. طبعا أمريكا عملاق ولكنها لا تستطيع إملاء أوامرها على العالم كما السابق ومديونتها الآن 32 تريليون $ وغائب عنها مقولة هيجل ( أن طائر منيرفا يأتي عند الغسق) .


النتائج الملازمة لبدايات المرحلة الجديدة
" الحرب" على أشدها في أوكرانيا، وهي مقبلة على تصعيد في الأشهر المقبلة ارتباطا بمضاعفة التسليح الغربي للجيش الأوكراني . وكل صاحب ضمير حي يتمنى أن تسكت المدافع والصواريخ، غير أن النيران تشتعل أكثر فأكثر. ومثلما فشلت امريكا في الشرق الأوسط سيما في إيران وسوريا والعراق ولبنان وأفغانستان وو.. وصولا إلى الفلسطيني المحاصر الذي قال بكليته (لا لصفقة القرن) ولعله يثبت أمام مشروعات مشابهة ، والجزائر التي تتعمق علاقاتها مع موسكو وبكين وتركيا عضو الحلف الأطلسي التي تمردت جزئيا وصولا إلى امتناع كل العواصم العربية عن تأييد" العقوبات الغربية على روسيا واستقبال شبه الجزيرة العربية للرئيس الصيني وما يتصل بذلك من مشروعات .. وفي الطريق تطبيع للعلاقات السورية – التركية ، وربما المصرية – التركية والمصرية – الإيرانية ...


مثلما نلحظ تنامي العلاقات التجارية والاقتصادية بين موسكو وبكين وبلدان محور المقاومة والبلاد العربية إجمالا، ونلحظ أيضا الفرص الواسعة لذلك وهذا كله ما قبل الانتصار الروسي ، فما بالكم ان اخفق حلف الناتو في مراميه !


على الأغلب أن يتفكك الحلف، وغير مستبعد أن تشهد تمزقات داخلية وان تتفكك أوكرانيا ذاتها وان يتقهقر النموذج الغربي ( نموذج الليبرالية الجديدة وثقافته وان يتقلص الانبهار به، وان تتجه أنظار العالم لنموذج ( المعجزة الصينية) سيما في بلدان الجنوب وثقافته سيما احترام العائلة والجيل الأقدم والجدية في العمل والملابس المحتشمة وقيم الصدق والصداقة والتضامن ...


وسوف تنشط على نطاق واسع الشركات الصينية والروسية بما تملك من تكنولوجيا ومال (الروس يبنون مدينة صناعية في مصر برأسمال قدره 30 مليار$ وهناك ألاف المدارس والمستشفيات ... تبنيها الشركات الصينية في العراق كما بنت مليون وحدة سكنية في فنزويلا...) ويتعاظم التبادل التجاري مع إيران والدور المنتظر في إعادة بناء سوريا ...


ولبنان وفلسطين يمكن أن يستفيدا من هذا التحول في المشهد العالمي، الأول أن توجه شرقا وفلسطين ، بعدالة قضيتها ، يمكن أن تكسب زخماً، أن حسمت خياراتها.


في زيارة لأبي عمار لموسكو في السبعينات قال لبريجينيف( إننا شعب صغير، مجرد ثلاثة ملايين) ردعليه بريجينيف ( انتم 273 مليون، فالاتحاد السوفيتي معكم).


العالم مقبل على مرحلة جديدة والإقليم مقبل على مرحلة جديدة والرابح من يتماشى مع ( اتجاه التاريخ ) هذا التعبير المحبب للقيادة الصينية، فالأيام الأجمل لم تأت بعد) ناظم حكمت.