وصف الرئيس الأميركي، في اتصال هاتفي مع رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، العملية التي أودت بحياة سبعة إسرائيليين في القدس «بالهجوم على العالم المتحضّر». سنعود إلى حكاية «العالم المتحضّر»، ولكن بعد التذكير بحقيقة أن إدانة هجمات تستهدف المدنيين تُعتبر واجباً سياسياً وأخلاقياً بالنسبة للغالبية العظمى من دول العالم، بصرف النظر عن النوايا.
ومع هذا في الذهن، نعود إلى بيان الناطق باسم الخارجية الأميركية تعقيباً على هجوم الجيش الإسرائيلي على جنين، الذي أسفر عن مقتل تسعة فلسطينيين. عبّر الناطق عن «حزن بالغ لسقوط وإصابة مدنيين» وعن «قلق عميق إزاء دوّامة العنف في الضفة الغربية» وشدد على الحاجة الملحة «للحد من التوترات» وتجنب «المزيد من الخسائر في أرواح المدنيين».
سقط (يعني قُتل) وأصيب مدنيون، أيضاً، في الهجوم الإسرائيلي، باعتراف الناطق الأميركي نفسه. تقتضي النزاهة السياسية والأخلاقية، طبعاً، ألا يُميّز أحد، من حيث المبدأ، بين القتلى من المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومع ذلك، يُميّز الرسميون الأميركيون بين هؤلاء وأولئك بطريقة صادمة تماماً:
أولاً، من خلال عاطفة جيّاشة لم تقتصر على إدانة عملية القدس وحسب، بل وتجلّت في قيام الرئيس الأميركي نفسه بالتعبير عن هذا الأمر، أيضاً. وثانياً، بتصعيد العاطفة إلى حد الاستعداد لتقديم ما يلزم من أشكال الدعم لحكومة إسرائيل ومواطنيها، وثالثاً، برفع العملية إلى مرتبة الهجوم على «العالم المتحضّر». ورابعاً، من خلال التعقيب على اقتحام جنين بمفردات باردة ومعلّبة كالسردين، لم يكلّف الرئيس الأميركي نفسه عناء التعبير عنها، بل فوّض أمرها لموظّف صغير في وزارة خارجيته، وخامساً، والأنكى من هذا كله أن التعقيب لم يرق إلى مرتبة الإدانة.
وإذا لجأنا إلى لعبة محامي الشيطان، فقد يجد الأميركيون ما يُفسّر موقفهم بالقول إنهم ينظرون إلى اقتحام جنين كممارسة مشروعة من جانب الإسرائيليين لمبدأ المطاردة الساخنة، المنصوص عليه في اتفاقات أوسلو، وأن سقوط مدنيين في عمليات كهذه يندرج في باب الأضرار الجانبية، التي يصعب تجنّبها في حالات كثيرة.
وهذا، بالتأكيد، عذر أقبح من ذنب، كما يُقال. فلا يجوز الاحتكام إلى أوسلو، والعثور في بنوده على ما يبرر ممارسات بعينها، بطريقة انتقائية أولاً، وفي وضع تجاوزت فيه الأوضاع على الأرض، وفي السياسة، الاتفاق نفسه ثانياً.
على أي حال، إذا كان فيما تقدّم ما يكفي للتدليل على ازدواجية المعايير الأميركية. فإن معالجة اليوم لا تستهدف أمراً كهذا، بل لفت الأنظار إلى ما هو أهم وأبعد. المقصود أن لازدواجية المعايير هذه دلالات لا ترتد تداعياتها السلبية على الفلسطينيين وحسب، بل وعلى الإسرائيليين، والأميركيين، والعالم، أيضاً.
فإذا افترضنا، نظرياً، أن فكرة «العالم المتحضر» ليست صياغة بلاغية فارغة، بل كينونة واقعية وحقيقة قائمة في المجتمع الدولي، ويمكن تعريفها والحكم عليها بمعايير وضوابط دستورية في السياسات الداخلية، والعلاقات الدولية، فإن في إملاءات وإكراهات علاقة الأميركيين بإسرائيل (والإبراهيميين، والحق يُقال، نخصص لهؤلاء وما ألحقت العلاقة بهم من ضرر بفكرة أميركا عن نفسها وفكرة العالم عنها، معالجة لاحقة) ما يزعزع الفكرة المعنية، ويدعو للارتياب في حقيقة وجودها.
والمُلاحظ، في هذا الشأن، أن إملاءات وإكراهات هذه العلاقة، أي ارتباطها بتوازنات داخلية تخص لعبة وموازين القوى في الحقل السياسي الأميركي نفسه، قد ألحقت ضرراً بالغاً بالحقل المذكور، وأفرزت ما يكفي من الأعراض للتدليل على ما أصابه من تدهور وانحطاط: من حسابات الحرب الباردة، ولغتها ومعاييرها الاستراتيجية، إلى حسابات الإنجيليين الأميركيين، ولغتهم ومعاييرهم الأصولية، والقيامية، المعادية للمجتمع الدولي، وضوابط السياسة والعلاقات الدولية، في آن.
لذا، إذا نظرنا إلى الظاهرة الترامبية، التي ستبقى بعد غياب صاحبها، كعرض من أعراض تدهور الإمبراطورية، وبالتالي انحطاط حقلها السياسي، وتدهور رصيدها الرمزي في الداخل (على صعيد الثقة بالنخبة السياسية ونظام الحكم) والخارج (على صعيد الثقة المفترضة بدولة عظمى تتربع على هرم العالم)، فثمة ما يكفي من الشواهد للعثور على أكثر من صلة بين الظاهرة المعنية، والعلاقة الخاصة بإسرائيل بكل ما وسمها من إكراهات.
وفي سياق كهذا نشهد تجليات مختلفة للعلاقة المعنية في الحقل السياسي الأميركي في آخر أطواره: فثمة فوارق طفيفة وشكلية، في الوقت الحالي، بين الجمهوريين والديمقراطيين إزاء الصراع في فلسطين وعليها. يقيس كلا الحزبين موقفه بميزان الربح والخسارة في كل أنواع الانتخابات حتى البلدية منها. وحتى السيد بايدن، الذي بنى كل حملته الانتخابية على وعود مختلفة تنقض سياسات ترامب في كل شيء تقريباً، لم يجد بعد وصوله إلى البيت الأبيض ما يبرر نقد سياسة سلفه الكارثية والمحابية لإسرائيل في الشرق الأوسط.
وتبقى ملاحظة أخيرة: يندر أن تجد صوتاً واحداً بين اليهود الأميركيين (من المدافعين عن قيم الديمقراطية، والمعادين للشعبوية، والتمركزات العنصرية البيضاء، في أميركا نفسها) إلا ويعبّر في الوقت نفسه عن انتقادات صريحة للاحتلال، وسياسات الحكومة الإسرائيلية، وسياسة أميركا في الشرق الأوسط. وهؤلاء أفضل حلفاء للفلسطينيين في الولايات المتحدة، وأصدق الداعين إلى «عالم متحضّر».