المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
أعلن الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية (نبيل أبو ردينة) يوم الخميس الماضي الموافق 26/1/2023 عن جملة من القرارات كانت القيادة الفلسطينية قد اتخذتها عقب المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي فجر ذات اليوم في مخيم جنين وأسفرت عن إرتقاء تسعة من الشهداء بينهم إمرأة مسنة، ليقترب عدد الشهداء الفلسطينيين الذين ارتقوا منذ بداية الشهر الجاري من ثلاثين شهيد، أي بمعدل أكثر من شهيد كل يوم، وكان في القلب من هذه القرارات، إعتبار التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل لم يعد قائماً بمجرد الإعلان عن القرار.
في الواقع ليست هذه المرة الأولى التي تعلن فيها السلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، إذ قررت القيادة الفلسطينية في شهر آيار العام 2020 وقف العمل بالاتفاقيات الموقعة بين الطرفين بما في ذلك التنسيق الأمني على أثر عزم الحكومة ضم مناطق شاسعة من الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية، إلا أن قرار وقف التنسيق هذه المرة مختلف عن القرارات السابقة من حيث موجبات القرار، والسياق الذي حكم اتخاذه وكذلك الأهداف المراد تحقيقها منه، والتي يقف على رأسها وقف مسلسل القتل والإعدامات اليومية للفلسطينيين بدم بارد، الأمر الذي بات يشكل أولوية عليا للشعب الفلسطيني لا تقل أهمية عن أولوية توفير دوائه وغذائه، وأخيرا فهو مختلف عن سابقاته من حيث تداعياته ومآلاته على كل من مستقبل النظام السياسي الفلسطيني والأمن القومي الإسرائيلي.
من جهتها هذه المقالة تؤمن أن القرار الفلسطيني بإعتبار التنسيق الأمني لم يعد قائما لن يردع الإئتلاف اليميني العنصري المتطرف الذي يحكم إسرائيل الآن، ولن يمنعه من مواصلة التغول على الفلسطينيين ومواصلة التطهير العرقي ضدهم ومواصلة إستباحة دمهم في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وداخل مناطق العام 1948، لغايات إعادة انتاج نكبة العام 1948، كما يعبر عن ذلك صراحة حلفاء نتنياهو في الحكومة خاصة (بن غفير وسموترش) زعماء الصهيونية الدينية، أو لغايات تهيئة البيئة لإستنبات قيادة فلسطينية تستسلم للرؤية الإسرائيلية كما يوضح الخبير في الأمن القومي الإسرائيلي المقرب من نتنياهة (إفرايم عنبر)، الأمر الذي يفرض على الفلسطينيين الإستعداد لتحمل أعباء وأثقال القادم، والأهم لعمل كل ما يلزم للإنتصار على هذه الحكومة وتغولها.
تجدر الإشارة هنا أن حالة العمى الإستراتيجي الذي باتت تميز إسرائيل في ظل هذه الحكومة يشكل فرصة للشعب الفلسطيني للإنتصار عليها، بل وعلى المشروع العنصري الصهيوني برمته وذلك على الرغم من التهديدات التي تنطوي عليه مخططاته الإستئصالية.
من جهتها لن تناقش هذه المقالة الفرص الكامنة في تغول هذه الحكومة أمام الفلسطينيين في صراعهم الطويل والممتد ضد المشروع الصهيوني الإحتلالي العنصري، إذ سأتطرق اليه في مقالة أخرى، أما لماذا تؤمن هذه المقالة أن القرار الفلسطيني بإعتبار التنسيق الأمني غير قائم لن يردع الحكومة الحالية عن مواصلة مخططاتها الإستئصالية بحق الفلسطينيين فيعود لجملة من الشواهد والقرائن التي تعزز هذا الإيمان والتي يقف على رأسها عدم إخفاء الحكومة تبنيها مخططات إستئصال وإقتلاع وتهجير الفلسطينيين وضم أراضيهم للسيادة الإسرائيلية وتهويد قدسهم ومقدساتهم، والأهم أنها تؤمن بأن الشعب الذي صوت لها ومنحها أغلبية برلمانية في الإنتخابات الأخيرة قد فوضها تنفيذ هذه المخططات، علاوة على حقيقة إيمانها الأعمى ان بمقدورها تنفيذ هذه المخططات في هذه اللحظة من الزمن، وفقاً لقراءة خاصة بها مفادها أن التحولات الجارية في البيئة الإستراتيجية (المحلية والإقليمية والدولية)، توفر لها فرصة حسم صناعة وجود إسرائيل في المنطقة، الأمر الذي لم تنجح به الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 1948.
أما القرائن الأخرى فيمكن ملاحظتها في جملة الإجراءات والقرارات التي شرعت بها الحكومة مباشرة بعد تشكيلها، حيث توزعت هذه الإجراءات على صعيد مسارين إثنين.
المسار الأول هو المسار الداخلي ويهدف الى تغيير نظام الحكم إن على الصعيد التشريعي أو القضائي أو العسكري الأمني، لغايات انتاج نظام محصن قانونيا وقضائيا في تنفيذه مخططاته ضد الفلسطينيين، وذلك دون الإصغاء للأصوات المعارضة الداخلية والخارجية والمحذرة من التداعيات السلبية المتوقعة لهذا التغيير على الوضع الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والأمني والجيوسياسي للدولة.
ويمكن ملاحظة هذه التحذيرات في المظاهرات الضخمة الأسبوعية التي تنظمها المعارضة الإسرائيلية ضد ما تصفه المعارضة بالإنقلاب على السلطة القضائية والمساس (بديمقراطية الدولة)، كما يمكن ملاحظته في الرسالة التي وجهها كبار رجالات الإقتصاد الإسرائيلي لرئيس الحكومة نتنياهو قبل ايام يحذروه فيها من العواقب الوخيمة التي ستحدثها التغيرات في السلطة القضائية على الإقتصاد الإسرائيلي، خاصة على درجة الإئتمان المالي عالمياً، علاوة على ملاحظتها في الإنتقادات العلنية القلقة لخبراء في الأمن القومي الإسرائيلي للمخاطر التي تنطوي عليها التغييرات الهيكلية التي شرعت فيها الحكومة (إن على صعيد مرجعية الجيش والإدارة المدنية في الضفة الغربية، أو على صعيد الشرطة وقواعد إطلاق النار داخل القدس ومناطق العام 1948) على الأمن القومي الإسرائيلي.
أما المسار الثاني فيتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ لا تخفي الحكومة الحالية أنها تتبنى مقاربة مختلفة عن مقاربات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 1992 بما فيها الحكومات الخمس الماضية التي ترأسها نتنياهو نفسه، والتي تهدف الى إحداث تحول جذري في الواقع السياسي والإقتصادي والأمني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ومناطق العام 1948، لجهة إنهاء وتصفية القضية الفلسطينية وحسم صناعة وجود الدولة.
اللافت هنا هو شروع الحكومة في تنفيذ مقاربتها على هذا المسار وسط تقديرات إستراتيجية تنذر بحتمية الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة لهذه المقاربة، ومحذرة في نفس الوقت من التداعيات الخطيرة لهذه المقاربة على الأمن القومي الإسرائيلي ووجود الدولة برمته، الأمر الذي يتجلى أيما تجلي في التناقض بين خطة وزير الأمن القومي (بن غفير) التي أعلن عنها الأسبوع الماضي، والتقرير السنوي للعام 2023 الصادر عن معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي (INSS)، إذ فيما يحذر التقرير السنوي للمعهد من زيادة إحتمالات القوية الإنزلاق الى واقع الدولة الواحدة إذا ما إستمر انسداد الأفق السياسي أمام الفلسطينيين نتيجة للرفض الإسرائيلي ومواصلتها الإستيطان والتهويد خاصة في القدس والمسجد الأقصى، تركز خطة بن غفير على الإستعداد لسيناريو معركة سيف القدس2، فضلاً عن اعلانه انه سيواصل اقتحامه للمسجد الأقصى وأنه غير ملتزم بتعهدات نتنياهو للملك الأردني بعدم تغيير الوضع القائم في المسجد.
ويتجلى كذلك في إعلان رئيس الحكومة نتنياهو دعمه لنقل صلاحيات الإدارة المدنية في الضفة الغربية للوزير في وزارة الدفاع (سموتريش) ، الذي يعلن جهاراً نهاراً أنه أنتخب لغايات الضم والترانسفير وتوسيع الإستيطان في الضفة الغربية، وذلك وسط معارضة كل من وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان الجديد.
قد يجادل البعض هنا أن العملية الإنتقامية الكبيرة التي نفذها في قلب القدس مساء يوم الجمعة الموافق 28/1/2023 أحد مواطني القدس (خيري علقم) كرد على مجزرة جنين، ستردع الى جانب القرار الفلسطيني بوقف التنسيق الأمني الحكومة وتجبرها على التراجع عن مخططاتها، لا سيما وأن العملية جاءت مطابقة لتحذيرات الخبراء في الأمن القومي الإسرائيلي.
وعلى الرغم من وجاهة ومشروعية جدل هذا البعض، إلا أن هذه المقالة ترى أن الحكومة الحالية لن تتراجع عن مواصلة التطهير العرقي والقتل البارد للفلسطينيين، الأمر الذي يضع الفلسطينيين أمام تحدي الإستعداد لمواجهة الأسوأ واليقين بأنهم المنتصرون في نهاية المطاف.