بلينكن يعود إلى كيسنجر

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

فقط بعد وقوع عمليتي القدس اللتين أوقعتا قتلى وجرحى في صفوف المستوطنين الإسرائيليين، هرول أنتوني بلينكن إلى تل أبيب ورام الله، ولو أن الأمر بقي في حدود مجزرة جنين التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق المواطنين الفلسطينيين، لما فكر وزير الخارجية الأميركي بالحضور إلى المنطقة، حتى لو صادف أنه في الجوار، أو على مقربة منها، وللتأكيد على أن النظام العالمي الأميركي يهتم فقط بأمن إسرائيل حتى وهي دولة احتلال، ويقيم الدنيا ولا يقعدها عندما يسقط بعض الإسرائيليين قتلى، ولا شيء غير ذلك، حدد الرجل في مؤتمره الصحافي مهمة زيارته بنزع فتيل التوتر، ولاحتواء ما يسعى إليه بلينكن من هدف أمني محض، سبقته رام الله بعقد اجتماع بين  مديري مخابرات مصر عباس كامل، والأردن أحمد حاتوقاي والرئيس محمود عباس في العاصمة الفلسطينية المؤقتة.
في إسرائيل، التقى بلينكن كلا من بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة، ويائير لابيد زعيم المعارضة، وفي المؤتمر الصحافي، توافق وزير الخارجية مع مضيفه الإسرائيلي في التركيز على الملف الإيراني، وتجاهل الحديث عن ملف الاحتلال، الذي جاء في حقيقة الأمر من أجل تجنيبه رد الفعل الميداني الفلسطيني، خاصة كلما توغل الإسرائيليون في عمليات الاقتحام والقتل والطغيان، ومع الرئيس محمود عباس التزم الصمت، حتى أنه لم يعقب أمام الصحافيين عما دار، ولم يفصح عن حقيقة الموقف الأميركي مما يجري، وجل ما أحيط بزيارة بلينكن من الجانب الأميركي هو سعي واشنطن لتخفيض مستوى العنف والتصعيد، وعاد ليكرر الإنشاء المعتاد حول معارضة واشنطن للإجراءات أحادية الجانب، وأبعد ما قاله هو رفض الولايات المتحدة لكل إجراء من شأنه أن يجعل حل الدولتين أصعب، مثل بناء المستوطنات، وعمليات الهدم والإخلاء، ومثل هذا الكلام اعتادت إدارة الرئيس جو بايدن على قوله منذ عامين، دون أن يعني شيئاً، بل إنها على الصعيد العملي لم تقم بأي إجراء تعارضه إسرائيل، بما في ذلك فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية المحتلة.  
ولأنه بات من الواضح أن واشنطن باتت تشعر بالخجل من الاستمرار في ترديد الكلام للجانب الفلسطيني، فيما الفعل كله للجانب الإسرائيلي، قام بلينكن بالإعلان عن دعم بلاده لوكالة الغوث الدولية بمبلغ 50 مليون دولار إضافية، فيما يبقى - بتقديرنا - الأهم هو الإعلان عن إبقاء أعضاء فريقه الخاص بالشرق الأوسط في المنطقة، وبالتحديد كل من كبيرة مسؤولي وزارته لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف، والمبعوث الخاص للشؤون الفلسطينية هادي عمرو، وذلك من أجل ضمان التزام الطرفين - الفلسطيني والإسرائيلي - بما التزما به أمام المسؤول الأميركي من عدم تصعيد ميداني، والذي هو بمثابة عود الثقاب لبرميل مملوء بالوقود، في منطقة مشتعلة أصلاً.  
وقد أفصح بلينكن بنفسه عن الهدف من إبقاء أفراد طاقمه في الشرق الأوسط بقوله في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع نتنياهو في القدس الغربية، إنه سمع أفكاراً بناءة لخطوات عملية يمكن أن يتخذها كل جانب لخفض درجة الحرارة، ولهذا أبقى كلاً من ليف وعمرو، وحدد هدفه بوضوح بالقول، إن الخطوة الأهم في هذه المرحلة هي نزع فتيل التوتر.  
وفعلاً وحقاً هذا هو الأهم في هذه اللحظة، وليس في هذه المرحلة، لكن السؤال هو كيف يمكن نزع فتيل التوتر؟ أليس بضبط التطرف الإسرائيلي، الذي وجد في الحكومة الحالية كل الإسناد الممكن، والذي لا يكتفي بقهر الاحتلال نفسه، ولا يبقي حتى على الوضع القائم، لا في القدس والأماكن المقدسة، ولا على الأرض الفلسطينية، أيا كانت تصنيفاتها، بما في ذلك المدن المكتظة بالسكان، بما في ذلك عدم التزام إسرائيل بالاتفاقيات التي وقعت عليها بنفسها؟  
مع ذلك يمكن الحديث بأن إدارة بايدن جل ما تسعى إليه هو عدم تصاعد التطرف الإسرائيلي ميدانياً ارتباطاً بتركيبتها التي أظهرت للعلن عدم ارتياحها لها، ولذلك أبقى بلينكن ليف وعمرو، من أجل عدم إقدام الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ ما أقره الكابينت من تصعيد عدواني ضد الفلسطينيين على كل مستوياتهم، سلطة ومقاومة ومواطنين، أرضاً وشعباً ومؤسسات، وذلك ما أشارت إليه صحيفة هآرتس، بقولها إن وجود الفريق الأميركي في إسرائيل قد يجعل من الصعب على الحكومة دفع قرار الكابينت باتخاذ سلسلة من الخطوات لتعزيز الاستيطان.  
على أي حال، الأيام القليلة القادمة ستكشف، ما يمكن أن يحققه وجود فريق بلينكن في الشرق الأوسط، مع أن إدارة بايدن بدأت حتى على المستوى اللفظي في خفض مستوى الحديث عن إجراءات عملية محددة في الاتجاه المعاكس لما أقدم عليه الرئيس السابق دونالد ترامب، من نقل للسفارة الأميركية للقدس المحتلة، ومن تقويض حل الدولتين بتقديم صفقة العصر، حيث قال بلينكن كما أسلفنا إن الأهم هو نزع فتيل التوتر، ومن ثم تابع قائلاً، أن رئيسه جو بايدن ما زال مقتنعاً بحل الدولتين ولكن خطوة واحدة تلو خطوة، وهذه إضافة تكشف أن تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية قد خفض من مستوى التوقع السياسي الأميركي تجاه الملف الفلسطيني/الإسرائيلي.
وكما هو معروف، فإن الاتفاقات الأساسية التي وقعت بين الإسرائيليين والعرب، كانت في عهود إدارات ديمقراطية، فقد وقعت كامب ديفيد في واشنطن بين السادات وبيغين برعاية الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر، وجرى توقيع إعلان المبادئ بين عرفات ورابين في حديقة البيت الأبيض، وكذلك وادي عربة بين الملك حسين ورابين، برعاية الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، فيما تبعه الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن بتجاهل الملف والتركيز على الحرب على العراق، وقد تحول بالملف الذي حظي بكل الاهتمام خلال 8 سنوات إدارة كلينتون، انتهت بوقوعه في فخ إيهود باراك في كامب ديفيد، إلى وضعه على الرف باتباع سياسة إدارة الصراع وفق ما كان قد نصح به رئيس حكومة بريطانيا أنتوني بلير الرئيس الجمهوري.
أما سياسة الخطوة خطوة، التي نطق بها بلينكن، فإنها تعيدنا خمسين عاماً للوراء، إلى أيام تولي هنري كيسنجر وزارة الخارجية بعد عدة سنوات قضاها مستشاراً للأمن القومي الأميركي في العهد الجمهوري، أي خلال ولايتي الرئيسين الجمهوريين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، والتي سار عليها خلال وبعد حرب العام 1973 بين مصر وسورية من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، بعد أن اقتنع بأنه لا يمكن التوصل للحل الوسط، بعد مؤتمر جنيف الذي جمع المتحاربين العرب والإسرائيليين بعد حرب أكتوبر - تشرين الأول 73، والتي اعتمدت الفصل بين المصريين والسوريين، وسهلت بالتالي فتح الطريق إلى كامب ديفيد 78، وقبلها مبادرة السادات بزيارة القدس العام 77، أي أن هذه السياسة عملياً تؤدي إلى ترسيخ الواقع الاحتلالي، وإلى تطويع الجانب الرافض له، وهو الجانب الفلسطيني هنا، من خلال محاولة تحسين الواقع الاقتصادي له، بشرط توفير الأمن للجانب الإسرائيلي.  
وهذا هو جوهر السلام الاقتصادي، الذي طالما تحدث عنه الإسرائيليون، والذي يبدو أنهم باتوا غير مقتنعين به، بعد أن تأكد لهم أن الفلسطينيين لا يبيعون وطنهم ولا أرضهم ولا حريتهم مقابل رفاهية ما، وبات الإسرائيليون على العكس من ذلك مقتنعين بزيادة الضغط الاقتصادي على الجانب الفلسطيني، ويظهر هذا جلياً منذ عدة سنوات، بقرصنتهم أموال المقاصة، اعتقاداً منهم أيضاً بأن إثقال الكاهل الفلسطيني بالعبء الاقتصادي سيجعل من مقاومته للاحتلال أصعب، كل هذا يعني أن لا الإسرائيليين ولا الأميركيين يفهمون حقيقة الواقع، ولا حجم الإرادة الفلسطينية، ولا حتى صيرورة التاريخ، وفي الوقت الذي هم يغرقون فيه بالتفاصيل، سيفاجئهم حدث جلل، يقع هنا أو هناك، فيضربهم على رأسهم، تماماً كما فعلت عملية القدس الأسبوع الماضي، لعلهم يصحون من غفلتهم.