بلينكن في القاهرة يتحدث مع المصريين عن ضرورة إقناع الفلسطينيين بالتوقف عن أية أعمال عسكرية ضد إسرائيل، حتى في حال استمر الإسرائيليون في قتل الفلسطينيين. المصريون، من جانبهم، يتمنون على أمريكا أن توقف إسرائيل عن قتل الفلسطينيين وتوفير الحرج عليهم، وغيرهم من العرب. خبر على شاشة التلفزيون يؤكد أن نيكولاس بيرنز، مدير المخابرات الأمريكية لا يزال في المنطقة، ولكن غير معروف بالدقة مكانه، ومن يقابل. أمريكا تؤكد التعاطف الكامل مع إسرائيل باعتبارها، من وجهة نظر واشنطن، الطرف المعتدى عليه، وتؤكد أيضاً العزم على مد يد العون بشتى أشكاله لها كالعهد بماضي العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وتدين الإرهاب الفلسطيني.
سمعت في هذه النشرة، أو في نشرة سابقة، أن بلينكن أشار إلى موقف أمريكا، لم يقل الثابت، من موضوع الاستيطان. ولم يفت قناة التلفزيون أن تذيع الخبر العاجل الصادر للتو عن وزير جديد في الحكومة الإسرائيلية يطالب رئيسها بتنفيذ وعده باستعجال الكنيست لإصدار تشريع يسمح باستيطان واسع جديد على مشارف القدس. في النشرة أيضاً رسائل دعم وتأييد حكومية وبرلمانية أمريكية لإسرائيل. الرسائل لم تتوقف.
جاءت أيضاً رسائل دعم لإسرائيل وإدانة للفلسطينيين من أوروبا، ولا أظن أن أحداً من المحللين العرب المرموقين فوجئ برسائل الأوروبيين الرسمية، فالطاعة التامة لأمريكا هذه الأيام الأخيرة علامة واضحة على حجم ونوع ضغوط أمريكا التي صارت تستخدم حرب أوكرانيا أداة تروض بها القادة الأوروبيين.
هذا التدافع الأمريكي المكثف يشي بالكثير. من هذا الكثير ما يتردد في بعض أروقة واشنطن عن أن إدارة الرئيس بايدن غير واثقة تماماً بما يدبره نتنياهو لها هذه المرة. نذكر ما فعله مع الرئيس باراك أوباما، ونائبه جوزيف بايدن، عندما تجاوزهما ودخل مباشرة الكونغرس دخول المنتصر على حكومة البلاد. نذكر ما حدث ليس باعتباره دليلاً إضافياً على مكانة إسرائيل في سياسة أمريكا الخارجية ونفوذها في السياسة الداخلية، نذكره لأن تصرفات الوزراء الجدد في حكومة نتنياهو الراهنة ومواقفهم وتصريحاتهم كلها لا بد أنها تسبب ارتباكاً في واشنطن، بخاصة بين أكثر المسؤولين الأمريكيين تأييداً لإسرائيل، ومنهم بايدن شخصياً، وبعض وزرائه المنتمين للعقيدة اليهودية.
الكلمة المفتاح في حملة دونالد ترامب الماضية، وفي إدارة جو بايدن، هي عظمة أمريكا، استعادتها أو تجديدها. كل من الرئيسين أدارها بطريقته، إلا أنهما اتفقا على الدافع وراء اختيار شعار استعادة عظمة أمريكا، ألا وهو الانحدار المتسارع في العديد من مؤشرات الحياة الأمريكية، وفي صدارتها الانقسام الداخلي، وفجوة الدخول وانتشار العنف المسلح والتمييز العنصري، وتدهور حال البنية التحتية في كل أنحاء الدولة، وتراجع مكانة أمريكا وهيبتها. إلا أن عاملَين أهمّ لعِبا الدور الأساسي في تشكيل مجمل وروح الخطاب السياسي الأمريكي لسنوات عدة مرت، وربما سوف يلعبانه لسنوات طويلة مقبلة، أقصد صعود الصين، وانبعاث القومية في روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين.
اعتمدت الهيمنة الأمريكية في معظم علاقاتها الخارجية على مبدأ التفوق المطلق في القوة في مواجهة الآخرين، بخاصة فارق القوة بينها وبين أي منافس محتمل. الحديث في هذا الموضوع يدفع دائماً علماء السياسة إلى العودة لقراءة أيقونة الدبلوماسية الأمريكية، جورج كينان، السفير الذي بمذكراته الدبلوماسية من موقعه في موسكو في نهاية عقد الأربعينات إلى وزارة خارجيته، مهّد للحرب الباردة عندما أوصى بضرورة منع روسيا من الاستمرار في التوسع في شرق أوروبا، وفرض الحصار حولها.
المثير أن لكينان بعد تقاعده توصيات بشأن أوكرانيا، وضرورة الحذر في التعامل معها، أو في شأنها. نذكر من هذه التوصيات ما يتعلق مباشرة بتطور الأحداث خلال الأيام القليلة الماضية، بخاصة ما اعتبرته أنا شخصياً، أقوى حملة ضغوط مارستها أمريكا على حلفائها منذ حملتها في أعقاب حرب السويس على كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، لوقف عدوانها على مصر، والانسحاب على الفور. هذه المرة مورس الضغط الشديد للغاية على ألمانيا بالخصوص، ولكن أيضاً على دول أوروبية أخرى لمدّ أوكرانيا بالدبابات من الطرز الأقوى.
نعرف الآن أن السفير كينان حذّر من حشر روسيا في الزاوية لأن ردّها إن وقع الحشر سوف يكون غاية في العنف. كثيرون استغربوا صدور هذا التحذير من الرجل الذي أوصى في سنّ مبكر بفرض الحصار على روسيا. أنا لم أستغرب التغيير في أفكار كينان السياسية، فالأفكار تنضج أو تتفتت وتعود تتشكل من جديد مع التقدم في العمر. ثم إنه نبّه إلى أن ما يربط روسيا وأوكرانيا أكثر كثيراً مما هو معروف للمراقبين الأجانب، وأشد تعقيداً. فالصراع مثلاً بين البلدين قديم، ومتجذر في التاريخ، باعتبار عامل العقيدة القومية المتطرفة في الجهتين. بمعنى آخر، نفهم من تنبيهات كينان وقد صار في مرحلة متقدمة من الخبرة والعمر، أن إقدام الولايات المتحدة على تفجير مرحلة جديدة في الصراع الأوكراني الروسي واستمرارها في تزويد أوكرانيا بالدعم ينذر باحتمالات جميعها مرعب. أهم هذه الاحتمالات هو أن يزداد معدل العنف في الداخل الأمريكي، والمؤشرات تؤكد فرص هذا الاحتمال. نأخذ على سبيل المثال ما كتبه كينان محذراً المسؤولين الأمريكيين من تدخلهم في هذا الصراع. قال ما معناه أن أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا أشبه شيء ممكن للغرب الأوسط الأمريكي بالنسبة للولايات المتحدة، هي سلة حبوبها وغذائها وقاعدتها الصناعية. وبالتالي، يمكن تصور رد فعل موسكو إذا تدخلت جهة أجنبية وحاولت إشعال فتيل صراع في حالة كمون مع أوكرانيا، أو فصل الدولتين الواحدة عن الأخرى.
كابوس رهيب يرفض أن يغيب عن مخيلتي، يوسوس مردداً على مسامعي القول بأن ما يحدث أمامنا الآن لا يخرج عن كونه مجرد رحلة تدريب. روسيا ما هي إلا محطة صغيرة في رحلة شاقة على طريق طويل، الصين محطته النهائية.