لا يجادل أحد من المثقفين والكتاب والسياسيين بشأن الاهتمام الإسرائيلي الملحوظ بالقارة السمراء، واستعدادها لتقديم مختلف الخدمات الاقتصادية والاستخباراتية والأمنية إلى الدول الأفريقية لضمان حيادها على الأقل فيما يخص الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
قبل عدة أيام، احتفل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بزيارة رئيس جمهورية تشاد محمد إدريس ديبي إلى تل أبيب وفتح سفارة هناك، بعد استئناف العلاقات بين البلدين العام 2019، بجهود سرية بذلها جهاز الاستخبارات الإسرائيلي «الموساد».
نتنياهو الذي سبق أن زار عدداً من الدول الأفريقية عامي 2016 و2017، يعتبر من أكثر رؤساء الوزراء اهتماماً بالقارة السمراء، وسبق أن أوعز لوزارة الخارجية وكذلك جهاز الاستخبارات التركيز على تطبيع العلاقات مع أغلب الدول الأفريقية.
خلال أحد التصريحات الصحافية، قال نتنياهو، إنه أول شخصية سياسية رفيعة المستوى تزور القارة السمراء منذ أكثر من خمسة عقود، بعد فتور العلاقات بين إسرائيل والأفارقة على خلفيات حربي حزيران 1967 و1973.
وتعهد بأن تواظب بلاده على تأمين الزيارات إلى الدول الأفريقية كل عدة أشهر، وهذا يعكس رغبة تل أبيب في توسيع خارطة حضورها والقبول بها على الساحة الدولية، والأهم أنها تريد كسب دعم الصوت الأفريقي المهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إسرائيل من خلال توسيع وجودها وحضورها في القارة السمراء، تحاول التشويش على دور مصر والجزائر المنتميتين إلى القارة الأفريقية، ولا يتعلق بروز الدور الإسرائيلي في أفريقيا بالجانب السياسي فقط، وإنما بأدوار كثيرة أهمها أيضاً الاقتصاد والأمن.
كثيراً ما سوّقت إسرائيل نفسها للعالم بأنها دولة متقدمة في مجالي السلاح والتكنولوجيا الأمنية وأنظمة الاتصالات، ولأنها لا تعول كثيراً على السوق الأوروبية لتصريف منتجاتها العسكرية في ظل وجود «هوامير» بيع السلاح مثل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وبريطانيا وفرنسا، تجد تل أبيب الفرصة ممتازة لتسويق مختلف بضاعتها في السوق الأفريقية.
المشكلة أن لأفريقيا تاريخا طويلا من العداءات البينية والقلاقل الداخلية والحروب الأهلية، ونشطت خلال السنوات الماضية تجارة السلاح في القارة السمراء، وكان لإسرائيل يد طويلة في تقديم الخبرات الأمنية والمعلوماتية وبيع السلاح وبناء شركات للتجسس والتنصت على بعض رؤساء الدول الأفريقية.
وفي الجانب الاقتصادي، سوّقت إسرائيل نفسها على أنها دولة متقدمة ويمكن الاستفادة من خبراتها في الأمن الغذائي والمائي، والنتيجة أن العديد من الدول الأفريقية فتحت أبوابها وأسواقها للمنتجات الإسرائيلية، وكذلك حدث أن عقدت شراكات استثمارية بين إسرائيل وإثيوبيا وكينيا على سبيل المثال.
تدرك تل أبيب أن القارة السمراء مكتنزة بالموارد الطبيعية التي تحتاجها الدولة العبرية، كما يحدث حالياً في استثمار الأخيرة بالماس الأفريقي الذي يتجاوز النصف تريليون دولار، بالإضافة إلى فرص نجاح تسويق منتجات المستوطنات الإسرائيلية.
وكذلك تدرك إسرائيل أن الوصول إلى قلب الدول الأفريقية يتطلب تذليل الصعاب خصوصاً مع بعض الدول العربية التي تنتمي للقارة السمراء، ولذلك من مصلحة تل أبيب أن تظل كل من مصر والجزائر ضعيفة ومنشغلة لمشكلاتها الداخلية.
غير أن تل أبيب بحكم الجوار الجغرافي تعطي أهمية أكبر لمصر وتريد أن تؤمن احتياجاتها المائية والموارد الطبيعية بشكل مستدام من القاهرة، ويلفت الانتباه للدور الإسرائيلي في موضوع سد النهضة بين مصر وإثيوبيا على أنه اهتمام بأن يتحقق الحلم الإسرائيلي بتحويلها إلى دولة مصّب لمياه النيل.
بصرف النظر عن طموح تل أبيب في الحصول على مياه النيل أو عكس ذلك، يبقى القول إن الدولة العبرية تقيم وزناً لمصر العربية والأفريقية، وربما تسعى من وراء دعم إثيوبيا في سد النهضة إلى حصول على ثمن من القاهرة سواء بترسيخ شراكات استراتيجية اقتصادية وأمنية أو طلب توسطها في مسألة تطبيع العلاقات الإسرائيلية - الأفريقية.
من بين 54 دولة أفريقية، هناك 40 دولة لديها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهناك 11 سفارة للأخيرة في هذه الدول، وفي ظل العجز العربي والتركيز على القضايا الداخلية، ربما تتمكن تل أبيب من تحقيق المزيد من الاختراقات الدبلوماسية في القارة السمراء.
المشكلة أن عين إسرائيل ليست فقط على القارة السمراء، وإنما عينها على تثبيت حضورها في الوسط الدولي بغية تمرير سياساتها الاستيطانية والعنصرية في فلسطين دون إحداث جلبة كبيرة، ومع الأسف مثلما تحقق إنجازات في أفريقيا، تجدها تتحرك بفعالية من القارة الأوروبية إلى آسيا وأميركا اللاتينية.