حين تسير في شوارع مدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزّة، وترى مجموعة من الرجال والنسوة يحملون أواني الطعام على رؤوسهم، اعلم جيدا أنّهم ذاهبون به إلى بيت متوفى، تقديراً لهم في الظرف الصعب الذي يمر به أهله.
فتراهم يتسابقون حين يسمعون بوفاة أحد ما في المدينة لبيوتهم، ليعدوا الطعام ويركضون به لبيت المتوفى ويبقوا معهم طوال أيام العزاء.
على الجانب الآخر، وفي أفراحهم يتكاثف أهالي المدينة مع أهل الفرح ويقومون بمساعدتهم فيما يفعلون، وقبل موعد الزفاف بأيام، تُقام الأعراس والليالي الملاح، فترقص النسوة على الأغاني الشعبية التي تُغنيها إحدى السيدات الكبار والتي حفظتها عن آبائها وأجدادها، وقبل يوم الفرح يُقيم أهل العريس والعروس يوم لنقش الحناء والاحتفال بالعروسين على طريقة أهل البلدة التراثية الجميلة.
"بيت لاهيا" تعني الكرم واللهو، وهي التي اشتهرت بالأراضي الزراعية الواسعة المزروعة بما لذ وطاب من الحمضيات والفواكه والخضروات، كالفراولة والبازلاء والبرتقال والتفاح اللهاوني، كما اشتهرت أيضاً بخصال حميدة ،التصقت بأهلها ومن يقطنون بها منذ عشرات السنين.
محمد الزين، يقول: "أهل المدينة كرماء، يحترمون الغريب ويتسارعون ليفتحوا له بيوتهم ويعدون الولائم والضيافة له من خيرات أرضهم، ومعظم أهل بيت لاهيا لهم أراض زراعية إلى الشمال منها، يقوم أبناءها بزراعتها بالعديد من المحاصيل والتي تُعد باب رزقهم الوحيد".
وبالحديث عن عادات أهالي المدينة في المآتم والأفراح، قال الزين، لمراسلة وكالة "خبر": "ذهبت لمناطق وقرى وبلدات كثيرة في غزة والضفة لكني لم أشاهد مثل التكاثف والتعاضد بين أهل المدينة كمدينة بيت لاهيا، فحين يسمع الجيران وحتى المواطنين الذين يقطنون بعيداً عن المنطقة التي فيها أهل الميت، يُسارعون لتحضير الطعام والشراب والذهاب به إلى بيت المتوفى".
وأضاف: "أهل الميت في الأيام الأولى لا يكون بمقدورهم إعداد الطعام لهم ولغيرهم، فرجال ونساء المدينة يتولون المهمة على أكمل وجه، ويبقون في بيت المتوفى لا ينقطعون عنه حتى بعد مرور الأيام الثلاثة المخصصة للعزاء".
الحاجة فضيلة الرن، قالت أيضاً في حديثها البسيطة لمراسلة "خبر": "ما لقيت يا بنتي أجمل ولا أحلى من بيت لاهيا، من أيام أبوي وأمي ما انقطعت عاداتنا لا بالأفراح ولا بالعزاء، لليوم احنا بنحب بعض وبنوقف مع بعض، تلاقينا هيك مع أهل العرس أو المتوفى حتى لو ما كان بيقربلنا، ما فيش هادا ابن عمي أو أخوي أو ابن خالي، كلنا أولاد مدينة وحدة متل الأخوة".
وبسؤال الحاجة فضيلة عن طقوس الأفراح التي لم تتغير بعد في المدينة، أجابت: "أول ما نسمع بوجود فرح في بيت من بيوت البلد على طول بنروح من الصبح نعجن ونخبز على فرن الطينة مع أم العريس وأقاربهم، وطول ما بنخبز ونطبخ واحنا بنغني أغاني زمان، وبنتغدى وبعد العصر بنلبس ثوابنا الحلوة الي طرزناها من سنين بايدنا وبنرقص وبتيجي البنات والصبايا ونسوان البلد ليفرحوا أم العريس والعروس كمان، بنوقف مع بعض حتى بتحسي انه احنا كلنا عيلة وحدة ما في فرق بينا".
أبو أسعد سلمان، قال لمراسلة "خبر": "بيت لاهيا لن تتغير في صفات أهلها الطيبين، وإنّ اختلفت كثيراً عن القِدَم، لكِن هذا الاختلاف لم يمس بالإنسان وعاداته، وإنما اقتصر على التطور في المنشئات الحيوية فقط، بيت لاهيا كانت قديماً مليئة بالأراضي الزراعية التي تُنتج الخضروات والفواكه والحمضيات بكافة أشكالها وألوانها، واليوم امتلأت بالمباني والمرافق، والأراضي الزراعية تمركزت فقط على الجهة الشمالية من المدينة، أيّ على الحدود".
وأضاف: "كثيرة هي العادات التي جُبل عليها المواطن في بيت لاهيا، والتي ورثناها أباً عن جد، من ضمنها أن فرح الآخرين هو فرحي، وحزنهم هو حزني بكل ما تعنيه الكلمات من معنى، فالمواطن بالمدينة لا يقف فقط مع قريبه في محنته بحكم صلة الدم فقط، وإنما تجده ربما يقف بجوار الغريب أكثر، ما زلنا الحمد لله نورث كرمنا وحبنا وتماسكنا مع بعضنا البعض لأبنائنا".
وأشار سلمان، إلى أنّه وبالرغم موت الكثير من كبار السن في المدينة، إلا أنَّ هذه العادة لم تندثر مع رحيلهم، بل ترسخت بشكل أكبر في قلوب أبنائهم وأحفادهم ومن بعدهم، لأنَّ الجميع عرف مدى تأثيرها الإيجابي ومعانيها السامية التي تُشعر الجميع بالتعاضد والتكاثف.
يُذكر أنَّ مدينة "بيت لاهيا" وصفت بجنة غزّة، وتقع إلى الشمال من قطاع غزّة على بعد حوالي 7 كم من مدينة غزّة، تحدها من الشمال قرية هربيا المحتلة ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط ومن الجنوب جباليا والنزلة ومن الشرق بيت حانون.
ومساحتها 24500 دونم يخضع منها لنفوذ البلدية 14374 دونم، علماً بأنّها كانت قبل نكبة عام 1948 ثاني قرية في المساحة والأملاك بعد بلدة برير في اللواء الجنوبي من فلسطين إذ كانت تمتد أرضيها عبر قرى بيت حانون -دير سنيد- دمرة ونجد وسمسم حتى حدود برير هذا من الشرق، أما من الشمال قرية هربيا ويبلغ عدد سكانها الحالي 75000 نسمة. وتُحيط البلدة الكثبان الرملية، والتي يصل ارتفاع بعضها إلى 55 متراً فوق مستوى سطح البحر. ويكثر فيها شجر الجميز الضخم.
لكِن هذه المدينة أصبحت تضم الكثير من المرافق، والدوائر الحكومية بجانب أراضيها الخضراء، وقد اكتسب أهلها صفات ميزتهم عن باقي المدن الأخرى، تلك الصفات ارتبطت بهم بوقت الفرح والحزن أيضاً.