غصات: الموت تحت الركام… والقتل تحت جسر يبرود

حجم الخط

بقلم جواد بولس

ترددت قبل مغادرة بيتي صباحا، لم تسعفني حبة المنوّم التي بدأت ألجأ إليها كلّما شعرت باضطرابات أو بتعب؛ فالليل والقلق كانا صاحبيّ، وصوت المطر يتسلل إلى حجرتي بعناد، كأنفاس غاضبة من السماء، ويجرح السكون. كانت أخبار ومشاهد الزلزال الذي ضرب مناطق مأهولة في سوريا وتركيا تغزو معظم نشرات أخبار الفضائيات في العالم، وشاشة تلفوني تتلقى، كمحطة إنقاذ، أخبارا وأفلاما صوّرها شهود عيان من مواقع الخراب.
لم أستطع مشاهدة بعض تلك المقاطع حتى النهاية، فصور الدمار ومشاهد القتلى، خاصة الأطفال، كانت مخيفة حتى الشلل. أبكاني مشهد لأب كان يقرفص فوق بقايا رصيف شارع وأمامه صف من جثث أطفال صغار، يبدون من بعيد كملائكة صغار نائمين. بينهم كانت طفلته وكان يكلمها، بصوت مخنوق، هوى كنصل على كبدي، ويسألها: لماذا أنتم.. لماذا أنت يا روحي.. كان عجزه يسيح مع دموعه ودهشته والحيرة تفتشان عن الحكمة بين الخرائب والركام، وعن العدل الذبيح على عتبات المعابد والبيوت، وعن المنطق في حصد هذه الأرواح وهي نائمة مطمئنة في بيوتها وبين يديّ الدعاء والصلاة. كان الأب يجهش بحرقة مكتومة حتى نهاه صوت لرجل وقف هناك وطالبه بأن يشكر فطنة وكرم السماء ويحمد حكمتها.
بلع الأب صوته ومدّ من بعيد، ذراعه نحو جسد طفلته وتمتم بضع كلمات سمعت صداها، وكان كله حسرة ووجع.

الانقسام الفلسطيني هو أكبر كوارث الطبيعة المستمرة التي تفتك بمصادر الأمل الفلسطيني.. متى سنعود لنصير شعبا واحدا مستعدا لمواجهة الزلازل والبراكين

لم أعد اتحمل متابعة تلك المشاهد والأخبار، كان ليل القدس ساحرا وفي الفضاء تتطاير «عباءات» من رذاذ رمادي، لم ينضج ثلجه، وتسبح بخفة أطفال يلحقون سرب فراشات تائهة. اتكأت على حافة اليأس وتخيّلت أنني أسمع همس نايات بعيدة تبكي. حاولت، وأنا في طريقي إلى رام الله، إزالة شوائب التشاؤم التي علقت بأهدابي المتعبة؛ وتذكرت ما كان يقوله أبي: «لا تسبوا الطبيعة، ولا تكفروا بها وبجبروتها. إنها أم «بأقنومين»، فهي أم الزلازل والجوائح والبراكين والنهايات، وهي أيضا أم الخير والبركات والبدايات. لا تشتموها»، هكذا كان يقول والدنا، «فلربما تبعث للبشر، عن طريق تلك الكوارث والموت والخرائب تذكارات وإنذارات عساهم يتذكرون أصلهم ويعون جهلهم ويتعظون ويهتدون ولا يتغطرسون ويتعنجهون». كنت وأنا أتذكر أحاديث أبي وأحاول تهدئة غضبي من ليلة كانت كلها عبثا وبؤسا، ابتسم؛ فأبي بعد حصول كل كارثة كان يحاول مداواة خوفنا واستيعاب غضبنا، وكان يربّي في نفوسنا بذور السعادة والفضيلة والأمل. كنا وقتها صغارا فكنا نسمع كلامه ونهدأ ونسكت؛ ولكن عندما كبرنا صرنا نتذكر كلامه فنتبسم ولا نهدأ، ونقرّ بجهلنا الذي كلما عرفنا صار أكبر، وبعجزنا، ونسهر ولا نحلم. كنت قريبا من حاجز «الجيب»، وهي قرية فلسطينية صغيرة كانت القدس تمسك بخاصرتيها، فنصب الاحتلال بينهما سورا عاليا ومدى؛ وكان أمامي طابور من السيارات الداخلة إلى محافظة رام الله. وقف بجانب الحاجز جندي وبيده حاسوب كان يدخل إليه اسماء بعض السائقين عن طريق ما يسمونه بلغة التفتيش والحواجز «الفحص العارض». كنا نتقدم ببطء وعندما صرت قريبا منه أوقف السيارة التي أمامي وتبادل مع سائقها ومن جلس بجانبه، بعض الكلمات. فهمت أنه كان يأمرهما بالعودة والدخول إلى رام الله عن طريق حاجز «قلنديا». حاولا الاستفهام منه عن سبب قراره المفاجئ وإقناعه بتغيير رأيه، لكنه أصر وأمرهما بصرامة حاقدة، وإصبع يده على زناد بندقيته، بالعودة؛ ففعلا. ثم أشار نحوي بيده، بحركة غير المكترث، فتقدمت حتى صرت بمحاذاته. من قريب بدا مثل كل جنود الحواجز، أجسادا كساها الغبار وحشية وشرا، ورؤوسا محشوة كراهية وبنادق. لم يوقفني، كان يضحك، أو هكذا خيّل لي بعد أن مارس سلطانه على فلسطينيين عاديين ومنعهما من عبور حاجزه؛ فأشار لي أن أستمر فقطعت الحاجز ومثلي فعل من كانوا ورائي. وصلت مقرّ نادي الأسير الفلسطيني قبل وصول عائلة الشهيد أحمد الكحلة، التي تسكن قرية «رمون» شرقي مدينة رام الله. قرأت في وسائل الإعلام كيف قتل جندي إسرائيلي أحمد الكحلة وهو في طريقه إلى ورشة عمله في قرية دير سويدان. في صباح الخامس عشر من الشهر الماضي نصبت تحت «جسر قرية يبرود» قوة من جيش الاحتلال حاجزا فجائيا، أو ما يسمّى بلغة الشقاء «حاجزا طيّارا». أمر الجنود جميع سائقي السيارات القادمين من اتجاهيّ الشارع بالتوقف وعدم التحرك. كان معظم السائقين وركاب السيارات في طريقهم إلى أماكن أعمالهم ووظائفهم؛ فانتظروا، مرغمين، طويلا حتى بدأ بعضهم بإطلاق صافرات سياراتهم كخطوة احتجاج ومطالبة بفتح الطريق.
«كنت إلى جانب والدي في السيارة ونحن في طريقنا إلى ورشة عملنا في قرية دير سويدان» هكذا بدأ قصيّ ابن الشهيد يروي لي تفاصيل استشهاد أبيه أمامه. كان يحدثني بصوت خفيت وبهدوء خال من علامات الأسى والألم. كنت أسمع تفاصيل عملية إعدام والده وأمتلئ غضبا. في بدايات عملي في فلسطين المحتلة كان هدوء أهل الشهداء وتقبلهم حقيقة موت أعزائهم بنوع من الرضا والتسليم يغيظني ويدهشني؛ ولكنني بمرور السنين فهمت أن هذه المسألة ليست بتلك البساطة، وهي، في الواقع، حالة أعقد وأعمق مما تظهر عليه، وصرت أستوعب أن أسى وأوجاع هؤلاء الأقرباء على فراق غواليهم تبقى مدفونة عميقا في دمائهم وفي أرواحهم مهما تعمّدوا إخفاءها، إما باسم ما تمليه صفات الرجولة الشرقية، فلا يجوز للرجل عند العرب أن يبكي وأن يحزن بالعلن، وإما بهدي العقيدة الدينية وموروثها في مجتمعاتنا. «علت أصوات صافرات السيارات فبدأ الجنود بالقاء قنابل صوت. واحدة من هذه القنابل وقعت على سقف سيارتنا فاحتج والدي أمام الجندي على إلقاء القنبلة. كنا في السيارة فاقترب منا أحد الجنود وبدأ برش غاز الفلفل علينا، فاصبت بما يشبه العمى. سحبني الجندي بالقوة من داخل السيارة وألقاني إلى جانب الطريق، وقاموا بإخراج أبي وبدأوا بالاعتداء عليه بعنف، بينما كان يدفعهم عن نفسه، إلى أن سمعنا صوت الرصاص. كان هذا الرصاص الذي أعدموا فيه أبي من مسافة الصفر. أوقفني الجندي وأمرني أن أعود إلى بيتي فسألته عن أبي فقال: لقد قتلته». هكذا حكى لي قصي قصة إعدام والده أمامه، وسكت. حاولت إسرائيل أن تتهم الشهيد أحمد بأنه كان يحمل سكينا وقام بالاعتداء على الجنود، لكنها سرعان ما غيّرت روايتها إلى أن أحمد الكحلة حاول أن يخطف سلاح أحد الجنود، الذي «اضطر» إلى إطلاق النار عليه. وبعد أن انفضح كذب الجنود اضطرت إسرائيل إلى أن تعترف بأن احمد الكحلة قتل من دون أن يكون هناك سبب لقتله، وتبين كذلك أن الجنود الذين أقاموا الحاجز يتبعون لكتيبة كان جنود منها قد تورطوا في عمليات اعتداءات دموية وإطلاق النار على الفلسطينيين وممتلكاتهم. حاولت أن استدرج قصيّ إلى خانة أخرى على سلم الصوت، لكنه بقي في سكينته وصلابته مصمما على ضرورة ملاحقة الجنود قانونيا حتى محاكمتهم؛ فوعدته بأنني معه حتى نهاية النفس.
كنا في مقر نادي الأسير الفلسطيني وكانت مشاهد دمار الزلزال في سوريا وتركيا تعرض على شاشة التلفزيون امامنا. كنا ننظر إليها ونتابع حديثنا عن شؤون فلسطين والموت على الحواجز أو داخل السجون وفي الميادين، وماذا يمكن أن نعمل. لم تكن لأحد من الحاضرين أجوبة وحلول؛ فمعظمنا يشعر بسوء الحالة الفلسطينية وبانسداد فرص مواجهة الاحتلال الصحيحة والموجعة. بعضنا تطرق إلى موقف دول العالم وكيف تصرفوا حيال سوريا وعاقبوا شعبها المنكوب، بينما ذهبوا لتقديم المساعدات لتركيا؛ وبعضنا دلف بسرعة نحو الحرب الروسية الأوكرانية وكونها فعليا حربا عالمية ثالثة محدودة الانتشار. ومن روسيا وصلنا السودان عاصمة اللاءات الثلاث الشهيرة التي أطلقها العرب من الخرطوم عام 1967 وأعلنوا: «لا صلح، لا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحقّ لأصحابه». ضحكنا مثل المجانين، واتفقنا على أن معظم الدول العربية إنما هي مثل الكوارث الطبيعية، يجب ألا نتوقع منها غير الشقاء. هدأنا وعدنا إلى واقعنا الفلسطيني وإلى قضايا الموت والحياة فاتفقنا على أن الانقسام الفلسطيني هو أكبر كوارث الطبيعة المستمرة التي تفتك بمصادر الأمل الفلسطيني. كنا محبطين على حافة الرجاء ونتساءل متى سنعود لنصير شعبا واحدا لا يخشى أفراده الردى، مستعدا لمواجهة «الزلازل والبراكين»، شعبا يقدس الحياة ويعرف أن يذرف الدمع وقت الفرح، وأن يذرفه بلا خجل رجولي، إذا غضبت الطبيعة وخطف «ملائكته» الغضة زلزالٌ لم يمهلها أن تضحك والصبح؛ أو يبكي عندما يسمع قصة كقصة الإعدام على الحاجز. قصة أحمد، رجل فلسطيني عادي كادح صادَق الفجر والازميل والكحلة ومضى وراء لقمة عيش أولاده بعزة وبكرامة؛ أحمد الإنسان البسيط الذي أعدم بوحشية لأنه كان «يموت» على الحياة ويحب تراب بلاده.
كاتب فلسطيني