لن تتراجع هذه الحكومة الإسرائيلية الموغلة في العنصرية والمتطرفة عن معركةٍ ستعتبرها حاسمة في القدس، وكل ما يقوله المتطرف إيتمار بن غفير ليس من بنات أفكاره، كما تحاول بعض الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية أن توحي، لأن معركة القدس والتي يُطلق عليها هذا المتطرف الأرعن «السور الواقي ــ 2» ليست سوى قرار رسمي حكومي، وما يجري ليس سوى الإعلان «الرسمي» عنه.
والتسمية للعملية التي يجري التحضير لها على قدمٍ وساق، ليست عفوية ولا ارتجالية أو استعراضية أو «تبجُّحيّة» أو حتى تهويلات إعلامية، بل هي في الحقيقة عملية شاملة من اقتحام المدينة وكل حيّ أو حارة أو زقاق فيها، وسيكون «التفتيش» لكل بيت وفي كل شارع، ولن يتم استثناء أيّ مكان بما فيها المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات، وستشارك بها قوات كبيرة من الجيش ومن الشرطة ومن «حرس الحدود»، وبتنسيق كامل من قبل كل الأذرع الأمنية و»القوات الخاصة» و»وحدات المستعربين»، وسيتم من خلالها استخدام كل الوسائل والتقنيات التي تتوفر بأيديهم، بما في ذلك الطائرات المروحية والطائرات من دون طيّار.
إسرائيل على ما يرشح من «ثنايا» الإعلام، والإعلام «اليميني» الأكثر عنصرية وتطرفاً وفاشية ستعتبر أن «نجاحها» في «كبح الإرهاب» في المدينة المقدسة هو (بروفة) لـ»السور الواقي ــ 2» في مناطق أخرى من الضفة، ولمناطق بعينها بالمنظور الراهن، ولكل الضفة إذا ما «لزم الأمر».
ترى هذه الحكومة المأزومة أن اقتحام القدس سيخدمها من زوايا عدّة، وخصوصاً زاوية قدرة المدينة في التصدّي لقوات الاحتلال، حيث تعتقد هذه الحكومة أن القدس هي المدينة الوحيدة في الضفة التي «لا يمكن» أن يكون فيها سلاح منظّم كما هو الحال في مدن أخرى في الضفة كما هي نابلس وجنين ومدن أخرى.
وترى هذه الحكومة أن إمكانية نجاح العملية في القدس أعلى من أي مدينة أخرى، وأن فشل هذه العملية يعني أن «السور الواقي ــ 2» ليس وارداً، وسيصعب الإقدام عليه، إن لم نقل ستستحيل موافقة الجيش عليه، ليس فقط لهذا السبب، وإنما لأسباب إضافية كثيرة أخرى، لا يتّسع المقام لها هنا.
أقصد أن هذه الحكومة المأزومة إلى درجة الاختناق تحتاج إلى انتصار سهل، أو هي على قناعة بأن «الانتصار» سيكون سهلاً بالمقارنة مع أيّ مدينة أخرى.
يُضاف إلى كل ذلك فإن هذه الحكومة الغارقة حتى أذنيها، والتي تلهث وراء الجناح الفاشي فيها ستتصدّع فوراً إذا لم تُقْدِم على هذه العملية، طالما أن هذا الجناح قد حرق كل السفن، وطالما أن التراجع عنها قد تحول في الواقع إلى أزمة كبيرة، تُضاف إلى سلسلة الأزمات التي تمرّ بها، والتي من شأن تفاقمها حول هذه المسألة بالذات أن تطيح بها.
وتراهن هذه الحكومة التي تشتدّ الحبال حول عُنقها على النجاح في «استئصال» الخلايا «النائمة» فيها، و»تصفية وتحييد» (الذئاب المنفردة)، كما تطلق عليها هذا الوصف، في ضوء أن مدينة القدس بالذات تتصدّر المشهد الكفاحي الفلسطيني في عموم الضفة الفلسطينية، وطالما أن «القدس الموحّدة»، و»العاصمة الموحّدة» تحت السيادة الإسرائيلية هي المدينة التي تثبت بصورة قاطعة وحاسمة، وبطولية، أيضاً، أن هذا الوهم الصهيوني هو أبعد ما يكون عن الواقع القائم على الأرض.
وتتأمّل الحكومة الصهيونية المثقلة باستمرار وتصاعد «المعارضة» لسياساتها داخلياً، «بامتصاص» تنامي هذه المعارضة، خصوصاً وأن الإضرابات أصبحت على الأبواب، وانسحابات الشركات «الرائدة» من الأسواق الإسرائيلية قد تجاوزت مرحلة التحذير، وباتت في عداد الوقائع المؤكدة.
هنا تأمل حكومة التطرف والعنصرية بالقدرة على تحويل الأنظار عن واقعها المأزوم بصورة غير مسبوقة نحو «نجاحات وانتصارات» حول (أزمة الأمن) التي تتحول حسب التقديرات الإسرائيلية نفسها، وحسب التقديرات الغربية، بما فيها التقديرات الأميركية، وحسب تقديرات الإقليم كله إلى مقدمات تشبه إلى حدٍّ بعيد المقدمات التي سبقت الانتفاضة الثانية، حسب تقديرات كثيرة، وتشبه في بعض الظروف، ومن خلال بعض الزوايا ليس المقدمات التي سبقت الانتفاضة الأولى ــ أي الانتفاضة الوطنية الكبرى 1987 ــ، وإنما الشمول والعمق والمشاركة الشعبية العارمة التي ميّزت تلك الانتفاضة، في حين تشبه الانتفاضة الثانية من حيث الأعمال العسكرية والعمليات المسلحة.
أقصد أن المراهنة على اقتحام واجتياح القدس كحلٍّ «ابتدائي» لأزمة الأمن التي توحل فيها هذه الحكومة، ربما ستكون هي نفسها التي ستؤدي إلى انتفاضة وطنية جديدة، وفي أغلب الظن فإنها ــ أي هذه الحكومة ــ تعمل وفق القاعدة التي تقول: «الغرقان لا يخشى من البلل».
كل المقدمات والوقائع تقول إن هذه الحكومة لا بدّ لها أن «تنجح» في شيء «ما» لأنها فشلت في كل شيء.
و»الاستقرار» الذي تبجَّحَ به بنيامين نتنياهو عند فوزه بالأغلبية «المُريحة» تحول إلى كابوس، داخلي، وأمني، وسياسي، واجتماعي واقتصادي، ولم يعد من عناصر هذا «الاستقرار» شيء واحد يمكن الاعتداد به، ولم يعد أمامه سوى «السور الواقي ــ 2»، أو افتعال حربٍ مع قطاع غزة، أو المغامرة بحربٍ أكبر وأخطر مع إيران، أو البحث عن أيّ مقامرة.
الأزمة أكبر من كل المغامرات وكل المقامرات.
نتنياهو وكل الشركاء والحلفاء من خلفه أو من أمامه يعرفون جيّداً أن الانتخابات لم تعد حلّاً، وهم على قناعة ــ الآن ــ أن الفشل الذي يلاحقهم من كل جانب سيؤدي حتماً إلى تصدع حزب «الليكود»، وإلى تراجع في «شعبية» «الصهيونية الدينية»، وبالتالي لا أمل في عودتهم إلى الحكومة.
ونتنياهو يدرك قبل غيره من الحلفاء والشركاء أن تقديم «التنازلات» لـ»المعارضة» ــ التي أصبحت على قدرٍ كبير من القوّة ــ لن ينفعه في شيءٍ حول «المحاكمات»، ولن يقدر على الإفلات من المحاكمة، خصوصاً بعد أن «كشّر عن كلّ أنيابه» حول قضايا الديمقراطية، وحول «القضاء» تحديداً.
تنعدم الخيارات، خياراً تلو الآخر أمام هذه الحكومة، ولهذا فإنّ المعركة على القدس، من اجتياح واقتحام وتنكيل ستكون «حاسمة» ليس لجهة ما يمكن أن يحقّقه هذا الائتلاف، لأنهم لن يحصدوا سوى الفشل، وإنما من زاوية ما سيؤدي إليه هذا الفشل بالذات من اكتمال دورة السقوط المدوّي، ليس فقط في المدى المنظور، وإنما في المدى الأبعد، أيضاً.
أمّا «أزمة» القدس عندنا فهي أن العرب الذين اجتمعوا في القاهرة، أمس، لا يدركون مع كلّ أسف أن المدينة التي تحتاج إلى الدعم والإسناد، الآن كما في، الأمس، كما في كل يوم قادم، قد سئمت إلى درجة اليأس هذه الديباجات، بل ولم تعد تصدق التعهدات التي يقطعها العرب على أنفسهم في «مواسم» هذا الدعم، وتشعر بالأسى الكبير وهي تعرف أن هؤلاء العرب بإمكانهم أن يمارسوا ضغوطاً هائلة على حكومة التطرف والعنصرية إذا ما رغبوا، وإذا ما أرادوا، خصوصاً أن بعضهم يدّعي أنه أقدَمَ على «التطبيع» بهدف إيجاد الفرص لممارسة مثل هذا الضغط.
والمدينة بالرغم من أسطورة البطولة والتضحية والصمود التي تمثلها لا تجد في الواقع الفلسطيني السياسي ما يهوّن عنها، وما يخفّف من آلامها، هذا إن لم نقل إنها لا تجد سوى ما يزيد من هذه الآلام.