حدث الزلزال، وما يستدعي من أسئلة ..!!

izhM5.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 


يفرض حدث الزلزال نفسه لأسباب كثيرة. فهو استثنائي، أي لا يحدث كل يوم. ومروّع، لأنه يُذكّر بحضور الطبيعة كقوّة عاتية وعمياء. وعلاوة على هذا وذاك، وبقدر ما يتعلّق الأمر بما وقع في تركيا وسورية، فالزلزال استثنائي، أيضاً، بالقياس على ما قتل وجرح من الناس، ودمّر من بنى تحتية، وروّع بالمعنيين الفعلي والمجازي من بني الإنسان في المكان القريب والبعيد.
ولأنه كذلك، فمن المنطقي، والطبيعي، تماماً، أن يحتل المتن، سواء في نشرات الأخبار، ومنصات التواصل الاجتماعي، أو حديث الناس، وأن يستدعي قدراً هائلاً من التحليل والتأويل، خاصة في البلدين الجريحين، وفي بلدان مجاورة شهدت هزّات ارتدادية، وشاعت فيها توقّعات بشأن زلازل قادمة، وفي العالم بشكل عام.
قلنا إنه استدعى قدراً هائلاً من التحليل والتأويل. وينبغي توضيح أن هذا القياس يتعلّق بالكم (العدد) لا بالكيف (النوعية). فما تجلى، ويتجلى، من ردود الفعل، في هذا الصدد، ينحصر في قوالب أو تصنيفات، قليلة فعلاً: التعبير عن التعاطف، والفزع من حجم الكارثة، واستخلاص عبر دينية ودنيوية.
والواقع أن لهذه القوالب، والتصنيفات، على قلّتها، أهمية ودلالات سوسيولوجية وثقافية وسياسية يصعب حصرها. فمن المُلاحظ، مثلاً، أن التأويلات العلمية (من نوع كيف ولماذا تحدث الزلازل) قليلة جداً، وكذلك التاريخية (متى وقع آخر زلزال في فلسطين وبلاد الشام، على الأقل، وماذا حدث في حينه، إضافة إلى الكتب والندوات وهي أكثر جدوى في كل الأحوال من كوارث تزعم الانتماء إلى الأدب والفن). وهذا يصدق على التأويلات السياسية، أيضاً:
الضوابط الهندسية والمعمارية التي تفرضها الدولة (في اليابان، مثلاً) لتفادي الأضرار الفادحة في حال وقوع الزلازل، وإجراءات الطوارئ الطبية والاقتصادية، وعمليات الإسعاف والإيواء، في حال وقوعها، وتعميم الوعي بكيفية التصرّف في زمن وقوع الزلازل (قبل وقوعها طبعاً).
وضعنا الضوابط والإجراءات في خانة التأويلات السياسية، لأن المسؤولية الأولى للدولة هي تأمين وحماية، وضمان، حياة الناس. ولا معنى لوجود الدولة في ظل غيابها. وفي سياق كهذا، فإن كيان الدولة هو المكافئ الموضوعي النقيض لقوّة الطبيعة العاتية والعمياء، وعلى عاتقه تقع مسؤولية الحماية والتأمين. لذا، إذا غمرت المياه منطقة بعينها نتيجة خلل في البنية التحتية، مثلاً، أو انهارت بناية سكنية، فتّش عن الدولة، وضع إصبعك في عينها.
وطالما وصلنا إلى هذه النقطة، يمكن تفسير الخلل الفادح ما بين القدر الهائل من التأويلات الدينية والدنيوية (نعني بالدنيوية تغليب النزعة الإنسانوية في معرض الرد على الديني، ناهيك عن مشاعر الاستنكار والمناكفة المتبادلة) من ناحية، وندرة التأويلات العلمية والسياسية من ناحية ثانية، بعدم وجود مفهوم واضح لكينونة ومسؤولية الدولة. وبهذا المعنى، وفي سياقه، تتجلى العلاقة العضوية بين الديني والنماذج السلطانية والعثمانية والمملوكية للدولة في هذا الجزء من العالم.
ليس من المدهش اكتشاف قابلية العلاقة العضوية بين الديني والنماذج المذكورة للدولة، لتوليد دلالات سياسية من هذا العيار. ولكن المدهش، حقاً، يتجلى في الثقافي، وفي حقيقة أن أنماط التفكير، والمخيال الاجتماعي العام، مُخرجات طبيعية لعلاقة من هذا النوع. فالتعاطف الإنساني، مثلاً، لا يذهب إلى ما هو أبعد من اللفظي، وكذلك التأويلات الدينية والدنيوية.
لماذا نتعاطف، مثلاً؟ لا ينبغي تجاهل أو إهمال سؤال كهذا، فقد نعثر في الجواب على دليل النبيل فينا، أو العنصري والمريض. لذا، يمكن لمناسبة كالزلزال، وما استدعى من ردود فعل وتأويلات، أن تكون مناسبة للكلام عن، وتحليل، حضور أو غياب، الضمير المدني، والقيم.
وبقدر ما أرى لا وجود لشيء اسمه الضمير المدني، والقيم، في السلّم الأخلاقي، والبنى الاجتماعية، والحقل الرمزي، لنماذج الدولة السلطانية، والعثمانية، والمملوكية، وهذا مفزع في زمن الإبراهيميين، على نحو خاص، لأن النماذج المعنية تستعيد، في الوقت الحاضر، ما فقدت من جدارة وصدقية في وقت مضى. وتسد ما ينجم عن غياب القيم من فراغ بأقنعة وهمية يتناوب على صناعتها التلفزيون، وذهب يزيد وسيفه، في آن.
وفي السياق نفسه. ثمة ما يبرر طرح أسئلة من نوع:
لماذا يُستدعى السجال بين الديني والدنيوي كلما وقعت كارثة طبيعية؟ المشكلة، هنا، ليست في التدليل على انغلاق الأوّل، وانفتاح الثاني، فهذه المسألة أقل أهمية بكثير من حقيقة أن عملية الاستدعاء هذه من تجليات الصراع على مكان الأولوية في الفضاء العام بين فئات اجتماعية مختلفة. وبما أن علاقة الديني بحقل السياسة، في دولة النموذج السلطاني العثماني المملوكي عضوية، فلن يكف هذا السجال عن احتلال المتن قبل، ودون، الإطاحة بالنموذج نفسه.
بمعنى آخر، وبطريقة أكثر مباشرة، ورغم أهمية الاستعانة بالعلوم والمنطق التجريبي، والدفاع عن قيم حديثة في السجال بشأن الموقف من الكوارث الطبيعية، وما يدخل في حكمها، إلا أن المسألة لا تعتمد على قوّة المنطق، وسلامة الحجة. فهذا مجرّد وهم. ولا إمكانية في الواقع لتعميق السجال، في هذا الشأن، ووضعه على السكة الصحيحة، دون العمل على تحويله إلى وسيلة لنقد، ونقض، العلاقة العضوية بين الديني ودولة النموذج السلطاني العثماني المملوكي.
يعني: الإنساني لا يتحقق بالإقناع (تذكروا العلاقة بين الحرب الأهلية الأميركية والعبودية، مثلاً، وبين الثورة الفرنسية وإسقاط فكرة الحق الإلهي)، بل يتحقق في سياق نقد ونقض وتقويض العلاقة العضوية بين الديني، وحليفه الدولاني، وحاضنته السياسية، التي عرقلت، وتعرقل، ولادة الإنساني على الأرض، وفي التاريخ.