الصراع السياسي الداخلي على مستقبل اسرائيل وهويتها، والذي انتقل للشارع بمظاهرات حاشدة تتسع باستمرار، و تجذب قطاعات اقتصادية واجتماعية هامة، بدأ يتحول إلى صراع جدي يعكس بصورة جلية الاستقطاب الحاد على مستقبل "دولة اليهود وديمقراطيتها". وبينما يتصاعد هذا التناقض في القضايا الداخلية، فإنه يكاد يتلاشي عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، والموقف من الاحتلال العسكري والاستيطاني، ومن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، سيما حقه الطبيعي في تقرير المصير. صحيح أنه ليس من الصواب وضع مجمل المكونات الحزبية للنظام السياسي الاسرائيلي في سلة واحدة ازاء مستقبل الصراع ، ولكن الصحيح أيضاً أن النظام السياسي في اسرائيل، والذي أُجبر على البحث عن مسار ما لتسوية الصراع وفق رؤيته الصهيونية على أثر الزلزال الذي أحدثته الانتفاضة الأولى، ظل حبيس الهروب من الاستحقاق التاريخي المتمثل بمسألة انسحاب الاحتلال الاسرائيلي الكامل عن الأرض الفلسطينية المحتلة، والاقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ونيل استقلاله في دولته المستقلة على كامل حدود 1967, والذي بدونهما لن تكون هناك أية تسوية مقبولة من الشعب الفلسطيني.
الصراع على مستقبل "ديمقراطية دولة اليهود" هو بحد ذاته يعكس طابعاً عنصرياً ازاء الحقوق الوطنية الفلسطينية، و كذلك مدى جدية الاقرار بحقوق المواطنة والمساواة الكاملة للمواطنين الفلسطينيين داخل اسرائيل، والذين يشكلون حوالي عشرين بالمئة من سكانها .
وبدلاً من أن يفضى مسار تسوية أوسلو إلى إنهاء الاحتلال، فقد أدى إلى اتساع نطاق الاستيطان بصورة غير مسبوقة. كما شهدت الحالة الفلسطينية انقساماً أدى إلى وجود سلطتين استبداديتين، ومعزوليتين عن نبض الشعب الفلسطيني وتطلعاته للحرية والكرامة الوطنية والانسانية، وتراجع الطابع التقدمي للحركة الوطنية الفلسطينية. والأخطر أن كلتا السلطتين المنقسمتين باتا تستمدان مشروعيتهما من مدى حاجة اسرائيل لبقائهما، وليس من أي شرعية دستورية/ انتخابية أو ثورية أو حتى شرعية انجاز انتقالية جوهرها تعزيز قدرة الناس على الصمود والبقاء وصون حرياتهم العامة والشخصية وحرية التعبير وضمان المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون . ذلك كله دون أن تتبلور حتى اللحظة ملامح لبديل وطني ديمقراطي جامع رغم الكثير من الجهود والمحاولات والحراكات التي لم تؤتِ أُكلها حتى الآن.
في المقابل، وفي الحلبة الاسرائيلية، فإن الأغلبية أسقطت التسوية من أجندتها، والفارق بين ما يسمى بالمعسكر الليبرالي الذي يخوض معركة الدفاع عن النظام القضائي و “ديمقراطية اسرائيل اليهودية”، ومعسكر اليمين العنصري الفاشي، أن هذا الأخير يتعجل حسم الصراع بتنفيذ مشروع الضم الاستيطاني الكامل، وربما انتظار لحظة سياسية مواتية لتنفيذ الترانسفير وإن بسبل جديدة، وتطبيق ما يعرف "بالشريعة اليهودية"في المجتمع الاسرائيلي، بينما يرى المعسكر الليبرالي، الذي يرفض هذه الشريعة ويعتبرها خطراً على ديمقراطيتهم، فإن أقصى ما يمكن أن يقدمه هو مجرد حكم ذاتي محدود، وربما كانتونات معزولة تحت الهيمنة الاسرائيلية كمحميات لاحتواء الصراع، وقطعاً ليس حله على أساس الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية وبقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بهذه الحقوق. كما أنه غير مستعد للقيام بأي مراجعة أو مجرد دراسة حول علاقة الاحتلال والاستيطان والتنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية بمسألة صعود اليمين الديني الفاشي لمقود الحكم في اسرائيل .
لا يُمكن انكار أسباب التحولات ذات الطابع الداخلي سواء الديني منها أو الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي في تطور البنية الاستعمارية العنصرية للنظام السياسي الاسرائيلي. ولكن الأكيد أيضاً أن هذه العوامل منفردة ومجتمعة غير معزولة اطلاقاً عن المشروع الاستعماري التوسعي .وفي هذا السياق يأتي السؤال الكبير وهو هل يُمكن حل القضية الفلسطينية واسترداد حقوق الشعب الفلسطيني، بمعزل عن نزع الطابع العنصري للحركة الصهيونية التي تهيمن على مجمل المركبات السياسية والاجتماعية في النظام السياسي والمجتمع الاسرائيلي ؟ و واهم من يظن أن ذلك ممكن أن يتحقق فقط عبر التفاعلات الداخلية الاسرائيلية.
السبب الرئيسي لفشل التسوية السياسية أن قواعدها الاساسية بُنيت خارج الاقرار المسبق بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وكذلك لأن مسار المفاوضات ظل حبيساً للرؤية الصهيونية العنصرية، و لما يمكن أن تقبله دولة اسرائيل من حقوق للفلسطينيين، وأنه من وجهة نظر ما كان يسمى "باليسار الليبرالي" بأن حقوق الشعب الفلسطيني تتلخص فقط في ما ستفضي إليه المفاوضات.