عن الحرية في بلدان المشرق

تنزيل (20).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 


يعتبر مفهوم الحرية من أكثر المفاهيم إثارة للجدل، إذ لديه مدى واسع من المعاني والتطبيقات لدرجة أنه لا يوجد اتفاق أو إجماع على فهم حدوده؛ وحتى المقولة الشائعة «تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الغير» مقولة مثيرة للجدل، فمن هم الغير؟ ومتى وأين تبدأ حدود حريتهم؟ ولماذا حريتهم أهم من حريتي؟
عندما تسمع كلمة حرية سيتبادر إلى ذهنك فكرة مثيرة: بوسعك أن تفعل أي شيء، في أي مكان وزمان، كما يحلو لك.. وفي الفهم العام نكاد نحصر الحرية في حرية الصحافة وحرية التعبير وحرية المعتقد.. وفي القصائد والبيانات الحزبية يأتي مفهوم الحرية فضفاضا غامضا وإن كان المقصود به حرية الشعب (أي التحرر من الاحتلال والديكتاتورية).. فهل حرية التعبير والمعتقد هي أهم أشكال الحرية؟ وهل الحرية الشخصية منفصلة عن حرية الشعب؟
وطالما أن الحديث عن الحرية في بلدان المشرق، سيكون ضروريا مقارنتها مع الحرية في بلدان الغرب؛ فمثلا، في الغرب (عموما، مع استثناءات معينة) يمكن لأي شخص أن يرتدي ما يشاء، وأن يتصرف كما يحلو له في الشارع، كأن يرقص مثلا، أو يعانق صديقته، أو يحمل يافطة تدافع عن حقوق السلاحف على شواطئ تشيلي، ولا أحد يعترض عليه، ولا يلفت انتباه أحد، طالما أنه لا يخالف القوانين، ولا يضر بالبيئة.. بل إنه يستطيع بكل سهولة أن يعلن عن تغيير دينه، أو جنسه، أو أن يتحول إلى قطة، وأن يشتم الرئيس، أو يعبر عن رأيه السياسي، وأن ينتقد أقدس الرموز الدينية، أو يصرّح عن ميوله الجنسية.. ولا أقول هنا إن تلك التصرفات صحيحة أو خاطئة، فليس الحكم عليها ما يعنيني، بل مناقشة مدى الحرية التي يتمتع بها الفرد هناك.
في بلدان المشرق (عموما، مع استثناءات معينة) وضع الحرية مختلف؛ فلا يستطيع الفرد ارتداء ما يشاء، أو التصرف أمام الآخرين بتلقائية، وإذا خرج عن السياق العام يتعرض لانتقادات ومضايقات، ويظل سلوكه منضبطاً ومتحفظاً إلى حد ما (أمام الناس) حتى أنه يضطر لقمع انفعالاته العاطفية في حالات الحزن والفرح، ولا يستطيع تغيير دينه، أو جنسه، أو التعبير عن ميوله الجنسية، وفي هذه الحالات سيكون مصيره القتل، أو التعزير والنبذ في أحسن الأحوال.. وفي الحالات السابقة من يقرر حدود الحرية ومن يصدر الحكم هو المجتمع وليس الدولة، فأحيانا ما يفعله الفرد لا يتعارض مع القانون، ولا يضر بغيره، لكن المجتمع يرفض تصرفه استنادا إلى القيم الدينية والعرف الاجتماعي. مع ملاحظة أن حدود الحريات الشخصية تضيق وتصغر أمام النساء، بما في ذلك ما هو متاح ومباح للذكور (الضحك، السهر، التدخين، الرياضة، الخروج مع الأصدقاء..) وأيضا هنا لا أقول إن هذا صحيح أو خاطئ، ولا أصدر أحكاما على التصرفات نفسها، بل أناقش مدى الحريات وحدودها المتاحة، وأسباب ذلك.
في منظومة الفقه الإسلامي الحريات مقيدة بالنص الشرعي، ولن أناقش هنا الفرق بين النص والتأويل، واختلاف الفقهاء، والمساحات الكبيرة التي احتلوها، بل ألفت الانتباه إلى قضية الخلط بين الحرية الشخصية وحرية المجتمع من خلال بعض الظواهر؛ فمثلا يتساهل المجتمع مع التصرفات المخالفة للشرع (الغش، السرقة، الكذب، الاحتيال، حرمان الأخت من الميراث، قتل النساء على خلفية ما يسمى الشرف..) ولكنه يرفض تماما بعض التصرفات التي لا تتعارض مع الشرع، ولكنها لا تنسجم مع الموروث الثقافي والاجتماعي (تنظيم ماراثون للطلبة من الجنسين، حفلة موسيقية، عرس مختلط، فعالية ثقافية أو فنية، فيلم سينمائي، رواية..).
ونرى التناقض بشكل أوضح في مشاهد غريبة أخرى، مثلا سيرتعد المجتمع وينتفض إذا قبّل رجل امرأة في مكان عام (حتى لو كانت زوجته أو أخته)، ولكنه لا يعترض عليه إذا تعدى على المرافق العامة، وأيضا سينتفض المجتمع إذا غنى أحدهم في الشارع (خاصة إذا كانت فتاة) ولكنه لن يعترض عليه إذا احتل ببضاعته الرصيف، أو إذا ألقى نفاياته من شباك السيارة! في البيت يخجل الرجل من مغازلة زوجته أمام الأطفال، ولكنه لا يخجل من ضربها وتوبيخها أمامهم.
في موضوع حرية التعبير سنجد أن الدولة (بما في ذلك بعض النظم الدكتاتورية) أكثر تساهلا من المجتمع، فهناك الكثير من المواضيع لا يجرؤ الكتّاب على الخوض فيها، مع أنها لا تضر بالأمن العام، ولا تتعارض مع القانون، لكنها تمس الموروث الثقافي والاجتماعي، وحتى لو انتقد الكاتب النظام، فإن السلطة تحيله إلى القضاء، وهناك لديه فرصة الدفاع عن نفسه، وتوكيل محامٍ.. لكنه سيخاف من ردة فعل المجتمع، ومن الغوغاء والمتطرفين وحملات التنمر.
هذه التناقضات سببها الأساس الذي بُني عليه مفهوم الحرية، وهنا سنجد في بلدان المشرق أن فهم الحرية تأسس على أربع ركائز: المنظومة الفقهية، ذكورية المجتمع وانحيازه للرجل ضد المرأة، حرية الجماعة مقدمة على وأهم من حرية الفرد، التركيبة القبلية.
تقول الكاتبة «نادية عيلبوني» إنَّ مفهوم الحرية في الثقافة المشرقية لم يُؤسس معرفيا وفلسفيا (خلافا لمفهوم الحرية في الغرب)، وأنه ينطلق من المجتمع إلى الفرد، بينما كل الحريات في الثقافة الغربية تنطلق من قاعدة واحدة عنوانها حرية الفرد، والتي تتفرع منها كل الحريات العامة الأخرى، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهي مرتبطة بمفهوم حقوق الإنسان، أي أن الحرية الفردية هي أساس بناء المجتمع، وهذا ما اشتغل عليه فلاسفة عصر النهضة في الغرب طيلة أربعة قرون، وصولا إلى الوضع الحالي.
بينما كانت الحالة الفلسفية والفكرية في بلادنا مغيبة وحبيسة في بوتقة الفكر والفقه الديني الذي كان يمثل سقفها الأعلى، هذا الفقه الديني يلغي وجود الفرد ويمحوه لصالح الراعي (الحاكم أو الخليفة)، والرعية (المجتمع المطيع للحاكم)، وبما أن الحاكم يحوز على ويمثل القداسة الدينية، فإن طاعته تصبح واجبا دينيا، وبالتالي لا معنى للحرية الفردية، ولا مكان للفرد إلا من خلال الجماعة، بكل قيمها الدينية وحمولتها الثقافية وأعرافها الاجتماعية، والتي لا يجد فيها الفرد مفراً من الانقياد لها.
وبناء على هذا الفهم المتناقض حصل سوء الفهم والصدام بين الشرق والغرب، إضافة إلى وجود اختلافات في فهم معاني الأخلاق وتعريفها. كما أن مفهوم الحرية في الغرب جاء حصيلة سياق متواصل من البناء المعرفي في مجالات الفكر والفلسفة وعلوم الاجتماع والاقتصاد والتربية وعلم النفس والحقوق (عمليا لم نشترك بصنعها، بل ما زلنا متأخرين عنها)، وحصيلة هذا البناء المعرفي تأصيل مفهوم حقوق الإنسان بكل أشكالها وتجلياتها، بما في ذلك حقه بالسيادة المطلقة والحرة على عقله وجسده وروحه، كفرد مستقل وحر.. وحقه في التعبير والتصرف والاعتقاد، دون تدخل أو إكراه، وحقه بالاعتراف به وما يحب أن يكون عليه.