من حق الإنسان أن يحلم، فالحُلم جنين الواقع، واللاجئ الفلسطيني المسكون بحُلم العودة، ستظل أفكاره تتقلب وعقله يجول بين القراءة والتحليل، فالإنسان لا تثبت قناعته على موقف واحد، بل تتجدد وفقاً لمعطيات ما يتحرك حوله.
لقد تفتحت عيوني على مشهد اللاجئ ابن المخيم، وتحركت نبضات وعيي النضالي حول سؤال "ما الذي يمكنني عمله؟"، فأخذتني أقدامي إلى حيث مصدر النداء لتحرير الوطن، إذ كان الفكر الناصري هو الأشد إغراءً لمن كان مثلي يتلهف إلى حمل بندقية التحرير. كانت السنوات التي سبقت هزيمة 67 هي من شهدت عنفوان توجهي الوطني على مستوى لغة الخطاب، حيث كانت أحاسيسي العاطفية في تأججها انطلاقةً ثائرة لا يغلب فارسها غلَّاب.. ولكن بعد هزيمة 67، انتكس كلُّ شيءٍ في المشهد النضالي الفلسطيني، وتغيَّر فهمي لكثير مما هو حولي، فالتزمت إسلامياً والتحقت بحركة الإخوان المسلمين، وأخذتني رياح التغيير باتجاه ما كان يدعو إليه الشيخ أحمد ياسين، وهو أن فلسطين لن تُحرَّر إلا كما حرَّرها الأولون، إذ فتحها الخليفة عمر بن الخطاب (رض)، ثم السلطان قطز وصلاح الدين، حيث نجحت الأمة في التخلص من المغول والصليبيين، ثم استقر حكم الإسلام بعد ذلك للعثمانيين.
كان مسار الخلاص في فلسطين صفحاتٍ مشهودة، ولا شكَّ أنَّ التاريخ سيعيد نفسه ليتحقق وعد الله بالنصر والفتح المبين. ففلسطين أرض مباركة وتحريرها منوط بـ"عباداً لنا أولي بأس"، ولكنَّ هذا الجيل يحتاج إلى الإعداد، وتوفير جهد الاستطاعة، وأن تقف خلفه أمة تظاهرها دولة قوية للتمكين، مع طليعة هي "رأس النفيضة" من شباب فلسطين.
كانت هذه هي الفكرة التي تأسسنا عليها، وبنينا على هديها عقيدتنا الجهادية في التحرير والعودة.
ونظراً لحجم الانهيارات الاجتماعية والفكرية داخل المجتمع الفلسطيني فقد تأخرنا كـ"طليعة إسلامية" في الدخول على خط العمل العسكري، وسبقنا إلى ميدان الكفاح المسلح تنظيمات نضالية كالجبهة الشعبية وحركة فتح، وقدَّموا الكثير من الشهداء والجرحى والمعتقلين والأسرى، فيما كان الشيخ أحمد ياسين يبني قلاعه من الكوادر الشبابية، الذين تأصلت ثقافتهم ورؤيتهم الجهادية على "الإسلام هو الحل".
ومع تصاعد العمليات العسكرية التي كانت تقوم بها تلك الفصائل والحركات الثورية، بدأ التململ بين الإسلاميين، وتعالت المطالبات بضرورة مواجهة جيش الاحتلال عبر العمل المسلح، خاصة وأن انتصار الثورة الإسلامية في إيران وانطلاق الجهاد في أفغانستان، قد حرّكا همم الشباب الفلسطينيين، وكانت مصدر إلهام لهم.
كان خروج د. فتحي الشقاقي في بداية الثمانينات من حركة الإخوان، ولجوئه للعمل الجهادي المسلح، بمثابة الشرارة التي منحت الإسلاميين في فلسطين حضوراً في خريطة الكفاح المسلح، وأنتجت التفاتة مهمة شدَّت رغبات الكثيرين للالتحاق بالحركة، إذ كان د. الشقاقي مفكراً متميزاً وصاحب رؤية حاجج بها كل من حاولوا إقناعه بأن المشهد الكفاحي/الجهادي يحتاج لبعض الوقت، فدولة التمكين لم تظهر بعد، وإن كان هناك إرهاصات بقرب ظهورها.
وفي لحظة من التفكير العميق والأسئلة التي يطرحها الشباب عن التحرير، وسؤال التحدي الأهم: متى؟ بدأ الشيخ أحمد يُطلق الإشارات: عسى أن يكون قريباً.
كانت الرؤية لانطلاق العمل العسكري تتضح يوماً بعد يوم، وكانت أنفاس الثورة والهبّة الشعبية تتعاظم بين الشباب الملتزم إسلامياً، حتى اندلعت انتفاضة ديسمبر 1987، التي أطلقت العنان لهؤلاء الشباب لتفجير طاقاتهم، ودفعهم –بعد انتظار طويل- لساحات الجهاد والاستشهاد.
ومع الإعلان عن انطلاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وجناحها العسكري (عز الدين القسَّام)، اكتملت رؤية الشيخ أحمد ياسين، إذ أخذت مشاهد الطليعة الإسلامية من خلال عملياتها الجهادية تتلألأ في سماء المنطقة العربية.
ومع ثورات الربيع العربي، بدا وأنَّ دولة التمكين في طريقها للقيام، وأن الأمة بروحها الإسلامية آخذة في الحشد والتعبئة لشدِّ الرحال للقدس والأقصى.
كانت هذه الحِراكات الشعبية على مستوى الأمة هي أكثر الفترات قناعة بأن مسيرة التحرير تمضي في طريقها الصحيح، مما عاظم من مساحات التفاؤل والثقة بشكل لم يكن مسبوقاً.
ومع حالة التآمر على الربيع العربي، انتكست وضعية دول المنطقة، وتراجعت حميّة الأمة وحماسها لتحرير فلسطين.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاث حروب غير متكافئة، وصلنا إلى طريق مسدود، إذ واجهت الطلائع الإسلامية إسرائيل بدون توافر عمق الأمة، بل إنَّ العديد من الأنظمة شكلّت حالة من الخذلان المبين بهرولتها نحو التطبيع مع كيان الغاصبين.
المشهد اليوم، هناك طليعة نضالية مكشوفة ما تزال تمثل "رأس النفيضة"، وأمة شعوبها مهيضة الجناح، وعاجزة عن نُصرة الفلسطينيين؛ بسبب عمالة بعض الأنظمة وخذلان آخرين، فيما يبدو أن مشهد الغد يميل إلى مزيد من التطبيع، ووضعية الاستضعاف، التي تنحدر إليها حال الفلسطينيين.
وفي سياق حالة العجز وتراجع الإيمان بنبوءات زوال إسرائيل، فإنَّ كلَّ ما يمكن استشرافه من خلال المعرفة والتحليل أننا بحاجة ماسة إلى عنصر الوقت للحفاظ على شعبنا مرابطاً على أرضه، انتظاراً لحدوث توازن في الموقف الأمريكي؛ الداعم الحصري لإسرائيل، ولكلِّ ما هي عليه من حالة عدوان وإفساد في الأرض.
إن رؤيتي للتحرير تقوم على منطلقات ثلاثة، وهي: أولاً؛ الهدنة أو التهدئة لفترة زمنية محدودة، حتى ولو جاءت من طرف واحد، بهدف إصلاح البيت المنقسم على نفسه، ولمِّ الشمل الفلسطيني، وترك المجتمع الصهيوني يتقاتل ويتآكل من الداخل في مواجهاتٍ لن تنتهي بين العلمانيين والمتدنيين المتطرفين في صراعهم على السلطة، وأيضاً انتظار ما تتمخض عنه خريطة الصراع العالمي مع نهاية جديدة للتاريخ، تُستنزف فيها أمريكا وتُكسر شوكتها لحساب نظام متعدد القطبية، نجد لحقنا فيه أعواناً.
ثانياً؛ حلف التمكين، وهو ما يمكن أن ينوب عن دولة التمكين، ويمكن أن تجتمع فيه أحزاب ودول توفر النصرة والدعم للشعب الفلسطيني، وتعزز نهج المقاومة بكافة أشكالها الموجعة للاحتلال.
ثالثاً؛ العمل مع المجتمع الدولي لفضح جرائم الحرب الإسرائيلية وانتهاكاتها للقانون الدولي، وتقديم رؤية نضالية تمنحنا مكانة أخلاقية أفضل كالحديث عن دولة واحدة (ثنائية القومية) أو فيدرالية (دولة لكل مواطنيها)، تعكس الروح التي سادت لآلاف السنين بين الفلسطينيين، الذين عمروا هذه الأرض على مختلف انتماءاتهم العرقية والدينية.
إن تعرية وجه إسرائيل ككيان استعماري إحلالي، يتعامل مع الفلسطينيين بعنصرية ويمارس سياسة (الأبارتايد) والتطهير العرقي، سيعطي للخطاب الفلسطيني مصداقية أخلاقية تضاعف من معسكر المتعاطفين معه، والمؤيدين لمطالبه في حق تقرير المصير. إنَّ إظهار خطاب المظلومية أو الضحية هو سلاح يؤتي أوكله ولو بعد حين، إذ إن مراجعة تاريخ الشعوب والدول مع التحرير لا تخلوا من اعتبارات هذا العامل. إنَّ إساءة وجه إسرائيل هو أحد ضرورات وإرهاصات تغييب وجودها.
هذه هي ملامح رؤيتي للتحرير، والتي قد يخالفني فيها الكثير من النخبة الفلسطينية من الإسلاميين والعلمانيين، وهذا حق لكلِّ صاحب رأي، فرأي المرء على قدر تجربته، ويبقى قرار الرؤية والتوجه منوط بممثلي هذا الشعب من السياسيين والمقاومين. هذه مجرد أفكار لصناعة مشهد يُسهم في التخذيل عن أنفسنا، في وقت تكالبت علينا فيه الأمم، وخذلنا القريب والبعيد، وتعالت حناجر الموجوعين بالصراخ: متى نصر الله.