لأسباب مختلفة ومتنوعة - لكن على درجة من التشابه والتقارب - يعيش عدد من الأنظمة العربية في حال يمكن وصفه بشكل عام بـ»المتاهة».
يعزز هذا الوصف لحال «المتاهة» المذكور أنه لا توجد هناك مؤشرات ولا مقدمات ولا حتى محاولات، أو مشاريع مقترحة ومعروفة ومتداولة وعلى درجة من الجدية، تصلح لتكون مخارج من هذا الحال.
وإذا كان ممكناً تحديد وتسمية ثلاث دول تنطبق عليها أوصاف حال المتاهة المذكور، فإن أوضاع دول عربية أخرى ليست في وضع «اللوج» وحال التمام.
حال المتاهة وأسبابه ومكوناته تختلف بين بلد وآخر في الأعراض والتفاصيل، ولكنها تلتقي بدرجات متقاربة في الأساسيات المكونة للحال المذكور. وأهم هذه الأساسيات ثلاثة:
الأولى، ضعف مؤسسة الدولة فيها بشكل عام، بمؤسساتها الرئيسة المكونة والحاكمة فيها، ثم بمؤسساتها وإداراتها وأجهزتها التنفيذية.
ثم ما يرتبط بعد ذلك بضعف الدولة قد - وغالباً ما - يصل إلى درجة التفسخ في مجتمعها مهما تغيرت وتنوعت أسبابه وتعبيراته المباشرة، وهو ما يقود بشكل عام إلى ضعف وتراجع مكانة الدولة ووزنها ودورها وتأثيرها بدءاً بإقليمها وبالدول المكونة له.
بين الدول العربية التي تنطبق عليها الأوصاف المذكورة يمكن التجرؤ بتسمية ثلاث دول ودونما التقيد بترتيب حسب الأولوية أو فيما بينها، ودون الانشداد إلى وزنها وثقل دورها في النظام العربي العام.
والدول الثلاث المعنية هنا هي: لبنان والسودان وليبيا.
بالنسبة للبنان: فإن المكونات الأساسية لحال المتاهة الذي هو فيه ثلاثة، وكلها مكونات داخلية وهي: الطائفية والفساد وضعف مؤسسات الدولة.
مع ضرورة أخذ هذه المكونات ورؤيتها في إطار الوضع العام المحيط بدولة لبنان، بالذات لجهة وجود دولة الاحتلال الصهيوني على حدوده، والدور المؤثر الذي يلعبه هذا الوجود في تعميق المكونات المذكورة، ودوره السلبي بدرجة مؤثرة على إمكانية الخروج منها أو تجاوزها.
لقد وصل حال المتاهة في لبنان إلى مستويات غير مسبوقة، على الأقل في بضع عشرات من السنين الأخيرة. فقد فشلت الطبقة الحاكمة على كل الصعد بدءاً من انتخاب رئيس جديد بعد انتهاء المدة الدستورية للرئيس السابق، مروراً بمجلس النواب العاجز عن انتخاب رئيس للبلاد، وصولاً إلى العجز عن تشكيل حكومة دستورية والاستمرار بحكومة تصريف أعمال، بما يقود إليه ذلك من تأثير معيق على صلاحياتها وقدراتها، وإلى تساؤلات عن عملها وشرعية كل مؤسسات الدولة وأجهزتها.
ناهيك عن تأثير هذا الحال شديد السلبية على كل مناحي حياة الناس، خاصة الاقتصادية وارتداداتها على كافة النواحي الأخرى.
والأدهى أنه لا يبدو في الأفق أي مخرج قريب من هذا الحال.
أما السودان، فقد خرج من حكم عسكري جاء به انقلاب، إلى حكم عسكري جاء به انقلاب عسكري جديد. وكأن قدر هذا البلد ألا يحكم إلا بالعسكر وفقط عبر انقلابات عسكرية في الجوهر والأساس.
فقد ظل يحكم بالعسكر القادمين عبر انقلابات عسكرية منذ أيام النميري على الأقل، بكل ما يعنيه ذلك من عدم استقرار وعلى حساب الديمقراطية وشرعيتها ومؤسساتها.
وما يعنيه من تغييب لدور ورؤى أهل الوطن وقواهم السياسية والمجتمعية ولمؤسسات الدولة الديمقراطية، وأهمها مجلس الشعب (البرلمان). وما يعنيه كل ذلك من صراع مستمر مع القوى السياسية والمجتمعية ومن إضعاف بالتالي، للسودان ولأي دور له في النظام العربي العام. مع أن السودان شهد بشكل عام ومنذ بدايات تشكل دولته الحديثة ونظامها السياسي حياة سياسية مدنية، وتنافساً ديموقراطياً بين أحزابه السياسية (الأمة والاتحادي والشيوعي).
وعمق ذلك الدور وجود اتحادات شعبية وديمقراطية نشطة وفاعلة، ومن أهمها اتحاد الشباب الديمقراطي، واتحاد الطلاب، واتحاد المرأة، وعديد من الاتحادات المهنية الأخرى.
وأما ليبيا، فالوضع فيها يصعب على الكافر كما يقول إخواننا المصريون.
صحيح أن جذر وأساس الحال الذي تعيشه ليبيا وأهلها هو نتيجة مرة وإرث ثقيل لسنوات حكم القذافي، التي منع خلالها بتاتاً قيام أي حركة سياسية أو شعبية ديمقراطية أو تحرك جماهيري. كما منع قيام وتشكل أي قوى سياسية في البلاد، ولا أي تشكيلات شعبية ديمقراطية حقيقية، وفي مقدمها الاتحادات الشعبية (العمال - المرأة - الشباب - الطلاب) وبالتأكيد منع أيضاً قيام أي نقابة مهنية.
لا تغير هذه الحقائق وتأثيراتها ولا تقلل من الرفض المطلق للطريقة التي تم فيها إسقاط نظام القذافي، ولا من الرفض المدين للطريقة التي أنهيت فيها حياة القذافي نفسه.
أما الواقع الليبي الحالي، والتشرذم والصراع والانقسام على أسس جغرافية وقبلية وولاءات خارجية لا يرضي ولا يبعث الأمل بدور ليبي وطني أولاً يجمع شمل أهل الوطن، ويبني وطناً بتشكيلاته المتنوعة - ولكن الوطنية.
وحتى الآن لم تحقق النجاح أي من محاولات ومشاريع إخراج ليبيا من واقعها الانقسامي الحالي إلى بر الأمان، من أي مصدر أتت تلك المحاولات، ومهما كانت درجة صدقيتها وواقعيتها.
واقع هذه الدول الثلاث يفرض بقوة الضرورة والحاجة السؤال: لماذا لا تقوم جامعة الدول العربية وباسم كل أهل الوطن العربي ودوله بتولي مسؤولية المبادرة الجادة والمخلصة لإخراج الدول المذكورة من واقعها الموصوف.
أليس هذا ما يفترض أن يكون الدور الطبيعي لها والمطلوب منها.
أليس أهل الدار أدرى بشعابها والأقرب إلى فهم واقع هذه الشعاب والطرق الأنجح للتعامل معها؟
يبقى سؤال آخر: هل من الممكن إضافة أنظمة عربية أخرى إلى حال المتاهة الموصوف غير الأنظمة الثلاثة المذكورة؟
لا يبدو السؤال سهلاً، ولا تبدو الإجابة بنعم خارج المنطق والسياق.