بعد أن ظلت أوروبا ولأجيال عديدة جنة خضراء تفيض بالأنهار والبحيرات، وبمعدلات أمطار مرتفعة على مدار السنة، حتى اعتقد العالم أنها ستكون آخر بقعة في الكوكب تعاني من أزمة مياه.. وأنها ستكون ملاذ اللاجئين الهاربين من حروب المياه في المستقبل.. حصلت المفاجأة الصادمة، والتي لخصتها عبارة منقوشة على الصخور على ضفاف أحد الأنهار في ألمانيا، وهي "إبكِ إذا رأيتني".. وقد بانت تلك العبارة بعد أن انحسر النهر لمستويات مقلقة الصيف الماضي، كما كان حال النهر في القرن الثالث عشر.
وحسب وسائل الإعلام، لأول مرة منذ ما يقارب الخمسمائة عام، ظهرت في أوروبا الصيف الماضي، بوادر أزمة بيئية خطيرة، فمن إسبانيا غربا، حتى صربيا شرقاً، عانت أنهار أوروبا من الجفاف، بسبب ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض تدفق المياه من منابعها.
وقالت وسائل الإعلام حينها إنها أسوأ موجة جفاف تشهدها أوروبا منذ مئات السنين، أما العلماء فقالوا إن موجات الحر والجفاف وحرائق الغابات ستزداد سوءا في المستقبل، وأكدت عالمة المناخ إيلا جليبرت، من المعهد البريطاني للبحوث القطبية، أنه حتى لو تم وقف انبعاث غازات الكربون اليوم، وبشكل تام، فإن التغير المناخي سيظل في السنوات القادمة، وبالتالي علينا التكيف مع هذا التغير. (تقرير محطة BBC news). مع اعتقاد متزايد أن موجات الجفاف مرتبطة بالتغير المناخي، وأن ذلك سيؤثر على صحة الناس خاصة الذين لا يتحملون الحر، وعلى موارد المياه، وعلى الزراعة والإنتاج الغذائي، وعلى مصادر الطاقة، وتوليد الكهرباء، وتبريد المفاعلات النووية، وعلى التنقل، والمواصلات، ونقل البضائع، والسياحة، والثروة السمكية.. ما ينذر بكارثة اقتصادية، تُضاف إلى وتعمق من الأزمة الحاصلة الآن، نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، وما نتج عنها من أزمة طاقة وغاز.
وقد حذر خبراء بيئيون من أن إنتاج المحاصيل النباتية والحيوانية في أوروبا سينخفض بسبب الجفاف، ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها، واختفاء بعضها من الأسواق. ويخشى العلماء من تقلص مستويات الأنهار الجليدية في جبال الألب إلى النصف مع حلول العام 2050، ما يعني توقف جريان الأنهار الأوروبية وخروجها من الخدمة.
ومشكلة أوروبا أنها تعتمد كلياً على الأنهار والبحيرات كمصادر للشرب، وفي نقل البضائع، وإذا ما أُجبرت على التحول إلى النقل البري والقطارات، فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة تكلفة النقل والإنتاج بنسبة قد تصل إلى 30%، وبالتالي غلاء فاحش في أسعار البضائع والمواد الغذائية، وانكماش في الاقتصاد. بالإضافة لما ستحدثه من أزمات مرورية خانقة، فكل سفينة نقل متوسطة تعادل حمولتها ما تنقله 100 شاحنة.
في الوقت الحاضر بدأت العديد من دول أوروبا تتخذ تدابير صارمة لتقنين استخدام المياه، مثل فرض قيود على غسيل السيارات، وري الحدائق، واستخدام برك السباحة، ورفاهية الفنادق، وحتى على الاستحمام ومياه الشرب.. ومع استمرار الكارثة ستضطر إلى المزيد من التقنين.
وفي المقابل، شكك البعض في هذه الأزمة، على اعتبار أن انخفاض مستويات الأنهار في الصيف أمر طبيعي يحدث كل سنة، ووصفوها بالأزمة السياسية المفتعلة، حيث إن أنهار أوروبا تعتمد على ينابيع وجليد جبال الألب، التي من المفترض أن حرارة الصيف ستؤدي إلى سيلانها وتدفقها، لكن سويسرا هي التي تسيطر عليها، وتتحكم بها من خلال عشرات السدود.
على أي حال، هذه الأزمة لم تتوقف عند أوروبا، بل شملت أجزاء واسعة من العالم، الهند التي تعهدت بإطعام العالم رداً على العقوبات ضد روسيا، بدأت تستورد الحبوب بعدما تعرضت أجزاء منها للجفاف، وكذلك الصين أعلنت عن انحسار العديد من أنهارها، ما أجبرها على استيراد احتياجاتها الغذائية من الخارج.
العالم العربي يعاني من الجفاف وشح المياه أصلاً؛ الأردن مثلاً من الدول الفقيرة مائياً، ويعاني من انحسار مستويات السدود وجفافها، حتى أن مصر، والتي فيها نهر النيل، ستطالها الأزمة، بسبب سد النهضة في أثيوبيا، العراق وسورية تعانيان من أزمة مياه غير مسبوقة، حتى أن نهري دجلة والفرات باتا على وشك الجفاف تماما.. وأيضا نتيجة السدود التي أقامها كل من إيران وتركيا، وحرمت العراق وسورية من مليارات الأكواب المكعبة من المياه التي كانت تتدفق عبر النهرين سنوياً. وقد بدأت آثار الجفاف بالظهور، والتي ستؤدي إلى بوار وتصحر حوالى سبعة ملايين دونم من الأراضي الزراعية في العراق وحدها، وبالتالي انخفاض مستويات الإنتاج النباتي والحيواني بشكل بالغ الخطورة، وينذر بمجاعة.
وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية، ومع موجات الجفاف، اتخذت 14 دولة منتجة للغذاء قرارات بالتوقف كلياً أو جزئياً عن تصدير محاصيلها للخارج، والاحتفاظ بها لنفسها، وأهمها الهند، الأرجنتين، روسيا، أوكرانيا.
سابقاً، كنا نعتقد أن تداعيات التغير المناخي ستظهر في الأجيال القادمة، لذا لم نكن نوليها الاهتمام الكافي، اليوم، بدأنا نشعر بتلك التداعيات، وبأشكال أخطر وأسرع بكثير مما كنا نتوقع.. وإذا كان لكل مصيبة وكارثة وجه إيجابي، فإن الوجه الإيجابي الوحيد لموجة الجفاف الحالية أنها ضربت أوروبا، ولا أقصد التشفي بها، بل المقصود أن هذا الجفاف سيشكل صدمة للأوروبيين، جمهوراً وناخبين، وصانعي قرار.
وهذا سيدفعهم لاتخاذ تدابير حقيقية وجدية باتجاه التغير المناخي، أي تقليل انبعاثات غازات الدفيئة، وهذا الأمر مرتبط بعلاقة القارة العجوز مع الولايات المتحدة، وتبعيتها لها، وموقفها من روسيا.
وحتى الآن لم تغير أميركا موقفها السلبي من التغير المناخي، مع أنها أكبر مسؤول عن انبعاثات الكربون، المسبب للاحتباس الحراري، وكأنها تقول للعالم: جفت أنهاركم، حسناً، اشربوا من البحر.
على أي حال، لم يعد بالإمكان إنكار أزمة المناخ، ولا الأزمات الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، وقد أشارت تقارير إخبارية عديدة إلى أزمات في وسائل النقل العالمية، ومكوث البواخر لأسابيع في انتظار تفريغ حمولاتها، والتي أدت إلى حدوث أزمة في سلاسل الإمدادات، وتأخر وصول البضائع، كما تم الحديث عن أزمة الرقائق الإلكترونية، وأزمة الطاقة، وتوقع حدوث انكماش وركود في الاقتصاد العالمي.. فضلاً عن الأزمات التي نجمت عن جائحة كورونا.
مع اعتقادي أن معظم تلك التقارير اعتراها الكثير من المبالغات، والطرح الشعبوي، وإثارة الرعب.. إلا أن تلك الأزمات باتت علامات فارقة ستترك أثرها طويلاً خلال هذا القرن المثير والصاخب.