مقال اسحق ليفانون الذي أضحكني

حجم الخط

بقلم:د. أحمد رفيق عوض

 

اسحق ليفانون هذا يبلغ من العمر ثمانين عاماً أو يقل، ولد في بيروت وظل فيها مع والدته حتى عام 1967، حيث انتقل بعدها إلى إسرائيل في تبادل للأسرى، فوالدته كانت تعمل في احدى الوكالات الأمنية الإسرائيلية، ولكن هذه قصة أخرى، وهو الآن محاضر جامعي، وكان قد شغل منصب سفير إسرائيل في مصر في الفترة ما بين 2009 و2011، وهو يكتب ويحاضر وله اراء سياسية يحاول ان يبدو فيها متجرداً من الانتماءات الحزبية كما يدعي، ولهذا فقد نشر مقالاتً في صحيفة إسرائيل اليوم بتاريخ 18/04/2022 دعا فيه الى طرد من اسماهم الإرهابيين وتهجير من لا يؤمن بالتعايش او إمكانيته، وهو رأي تحول الى قرار على يد حكومة نتنياهو الحالية. ولكن هذا المقال ليس هو المقال الذي جعلني "افقع" من الضحك.
المقال الذي اشير اليه هو مقال نشره هذا الرجل في صحيفة معاريف بتاريخ 16/02/2023 تحت عنوان "النهج السليم"، وفي هذا المقال يتساءل كاتبه عن عجز إسرائيل عن إيجاد حل ناجع "يقتلع الإرهاب الفلسطيني ضدنا من الجذور". ويعترف الكاتب ان كل السياسات والإجراءات التي اتخذت في السابق لم تكن هي النهج السليم. وهو يعتقد ان "عنصر الكراهية الدائمة الموجودة في الرواية الفلسطينية" "والتعليم يبعد كل إمكانية للتعايش في المستقبل المنظور". كما ان "الوحشية التي تجلت في العملية بحي راموت هي ان المخرب رأى في المحطة أطفالاً صغاراً، ولم يردعه هذا عن تنفيذ مبتغاه المنكر" وبعد ان يعلن اسحق ليفانون عن عجزه في ردع ما يسميه الإرهاب الفلسطيني، ذلك ان استخدام القوة المفرطة -كما جرت في بلدان قريبة- لم تؤد الى اقتلاع الإرهاب وانما قادت الى تعزيزه ونموه وانتشاره، وبعد القى ليفانون في وجوهنا كل هذه الاستنتاجات، توقعنا ان يتوج ذلك بحكمة تاريخية او رؤية سياسية متقدمة، خاصة أنه رجل مجرب، ولكن، وهذا ما جعلني انفجر ضاحكاً، يفاجئنا هذا الحكيم بالقول إن هناك معهداً له سمعة طيبة في دراسات الإرهاب وطرق معالجته هو معهد جامعة رايخمن، "وخير ما نفعل ان نطلب من هذا المعهد ان يكثف جهوده ويعطينا حلولاً ملموسة ونافعة لوقف وباء لعمليات". هذا بالضبط ما قاله ليفانون في مقالته المضحكة، نصيحة مضحكة يقذفها هذا العجوز في وجه حكومات إسرائيل وجمهورها بعد كل هذه السنين.
وهذا يعني -باعتراف الرجل- ان كل إجراءات حكومات إسرائيل منذ عام 1948 وحتى الآن فشلت في قمع وانهاء "الإرهاب الفلسطيني" ولم يبق سوى التوجه الى "معهد" في جامعة رايخمن (وهي جامعة خاصة انتزعت الاعتراف كتأكيد على تغلغل النخب الاقتصادية النيولبرالية المتوحشة في المجتمع الإسرائيلي وتقديم رؤى سياسية واقتصادية تثبت دور المستوطنة في الوعي الإسرائيلي العام فضلاً عن شرعنتها دولياً. جدير بالذكر ان تكلفة الدراسة في هذه الجامعة هو أربعة اضعاف الدراسة في أي جامعة إسرائيلية أخرى). ولهذا لا اعتقد ان إشارة ليفانون الى هذه الجامعة ومعهدها المحترف إشارة بريئة، فهذه الجامعة التي تمثل التيارات النخبة الصهيونية الجديدة والتي ترى في استمرار الاحتلال وتعميقه جزءاً اصيلاً من نشاطها ودورها ونفوذها الاقتصادي والسياسي في المجتمع الصهيوني الحالي، بمعنى ان استصدار رأي من معهد متشدد مثل هذا يعني ان الرجل يريد طرقاً مستحدثة وجديدة ومبتكرة لقمع الفلسطينيين واحباط آمالهم واحلامهم بالكرامة والحرية، وقد يكون المقال كله دعاية رخيصة للجامعة ولمعهدها لان هذه الجامعة كما هي جامعة مستوطنة ارئيل، هما الجامعتان اللتان اقيمتا بعد عام 1967 بعد شد وجذب ومفاوضات طويلة مع مجلس التعليم العالي الصهيوني والحكومات الإسرائيلية. وبعيداً عن ذلك كله، فإن ما يضحك في هذا المقال ان الرجل ورغم كل خبرته الديبلوماسية وخلفيته الاكاديمية لم يستطع ان يجيب عن السبب الحقيقي للفعل الفلسطيني، فهي ليست الكراهية على الاطلاق، فهو يعرف بالتأكيد ان مجتمعاتنا العربية كما هو مجمل التاريخ العربي الإسلامي لم يعرف ولم يمارس ما مارسته الحضارة الغربية ضد اليهود قبل الثورة الصناعية وما بعدها، كما ان التعليم "المراقب" ليس هو الذي يغذي الفعل الفلسطيني على الاطلاق، ولا اريد هنا ان ادخل في جدلٍ عقيم مع هذا الرجل في ذلك، لأنه عمي تماما عما فعله جنود الاحتلال بنا، وما قامت به سلطات الاحتلال بأذرعها المتعددة ضد شعبنا وارضنا ومستقبلنا وحاضرنا، هو لم يستطيع او يجرؤ على رؤية ما فعلته وتفعله الحركة الصهيونية في بلادنا خلال مئة عام. ما أضحكني هو العماء والغباء والجبن. جبن ليفانون عن ان يقول ان الاحتلال هو السبب الأول بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. جبن هذا الرجل ان يعترف ان الحرية مثل الهواء لكل الشعوب، وان الكرامة هي ما يمنح الانسان معنى لحياته وافعاله. جبن الرجل ان يصارح نفسه وجمهوره وحكومته بالقول انه لا وجود لاحتلال ناجح أو حكيم أو مجاني، لا يمكن إدارة مجتمع نقي ونظيف وديمقراطي وحداثي وليبرالي وفي ذات الوقت إدارة احتلال عقيم ومتوحش. لا يمكن تقسيم الديمقراطية ولا تقطيع الحرية ولا توزيع الحياة بنسب متفاوتة.
ما أضحكني ان إسرائيل وبعد 74 من اقامتها أصبحت اكثر غباء وأكثر عمى عن قراءة الواقع. وان لجوء المحتل الى استخدام القوة المفرطة هو دليل عجز حقيقي وخوف عميق على المستقبل. كان يمكن لهذا الرجل ان يقول ببساطة -ودون الرجوع الى جامعة او معهد متخصص بدراسات الإرهاب- اعترفوا بحقوق الفلسطينيين عندئذٍ يتوقف كل شيء، أكثر من ذلك، هذا هو الجواب الوحيد الذي يجنب إسرائيل وجمهورها كل هذا القلق وهذه الفذلكة.
ما أضحكني في هذا المقال هو أن المحتل لا يعتقد أن أفعاله شريرة وأن احتلاله مسألة ثانوية، وان العيب في الشعب الفلسطيني وليس فيه، ما أضحكني في هذا المقال أن كاتبه ورغم سني عمره الطويل إلا أنه يتحدث بلغة الأطفال.