منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو، كان واضحاً أن الصدام معها سيد الموقف. فهذه الحكومة أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً على الإطلاق. وهذا شيء واضح ولا يحتاج لكثير شرح.
وهي فعلياً قررت إغلاق الطريق نهائياً أمام مبدأ قيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة منذ العام 1967، ومستعدة لفعل كل ما من شأنه القضاء على فكرة التسوية السياسية القائمة على الانسحاب من الضفة الغربية والقدس. وقد نص برنامجها على أن «للشعب اليهودي حقّاً حصرياً وغير قابل للتصرّف في جميع أنحاء أرض إسرائيل. وستشجّع الحكومة وتطوِّر الاستيطان في جميع أنحاء أرض إسرائيل: في الجليل والنقب والجولان وفي يهودا والسامرة (الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس)». أي أنه لا حقوق للشعب الفلسطيني في أي جزء من الضفة ولا القدس بطبيعة الحال. ولهذا فالقرار الذي اعتمدته ببناء حوالى عشرة آلاف وحدة سكنية في المستوطنات، وشرعنة تسع بؤر استيطانية، يندرج ضمن هذا البرنامج الذي لا يمكن التوصل إلى أي حل معه.
ولقد لقي قرار الحكومة الإسرائيلية الاستيطاني شجباً دولياً واسع النطاق، وهذا يشمل بياناً قوياً صدر عن خمس دول غربية كبرى (الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا) ويعارض «بشدة هذه الإجراءات الأحادية الجانب التي لن تؤدي إلا إلى تفاقم التوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتقويض الجهود المبذولة لتحقيق حل الدولتين المتفاوض عليه»، وشكّل هذا الشجب أرضية جيدة للعمل ضد إسرائيل في المحافل الدولية. ومع ذلك رأت الولايات المتحدة في التوجه إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يدين إسرائيل، ويعتبر خطواتها الاستيطانية غير قانونية ويطالبها بالتوقف الفوري عنها، عملاً «غير مفيد»، ومارست أقصى الضغوط على الجانب الفلسطيني لعدم التصويت على مشروع القرار الذي جرى تعديله ليكون مناسباً لغالبية أعضاء المجلس.
واشنطن تعارض السياسة الإسرائيلية، ولكنها في نفس الوقت لا تريد إدانة إسرائيل في مجلس الأمن، ولا ترغب في استخدام حق النقض «الفيتو»؛ لأن هذا يحرجها ويظهرها بممارسة معايير مزدوجة فيما يتعلق بخرق قواعد القانون الدولي. وللخروج من هذا التناقض الغريب، ضغطت على الطرف الفلسطيني الأضعف ليسحب القرار، ويكتفي بصدور بيان هزيل من مجلس الأمن يكاد يساوي بين الضحية والجلاد، وكأن الحديث يدور بين دولتين جارتين يوجد بينهما بعض التوتر، وليس بين دولة محتلة معتدية تنتهك حقوق الشعب الفلسطيني وتمارس ضده جرائم حرب، وبين شعب يخضع للاحتلال ولا يملك غير وسائل بسيطة ومحدودة لمواجهته بما فيها المؤسسات الدولية ذات العلاقة.
إدارة الرئيس جو بادين مارست الكذب والخداع من اليوم الأول لتوليها السلطة وحتى هذا اليوم، بعد انقضاء أكثر من نصف فترة ولايتها. فلا هي فتحت القنصلية الأميركية في القدس، ولا أعادت فتح مكتب تمثيل منظمة التحرير، ولا رفعت الحظر عن تمويل السلطة الفلسطينية. ولهذا من الصعب جداً تفهم أي موقف فلسطيني يستجيب لهذه الإدارة العاجزة والمخادعة. والشعب الفلسطيني لا يقبل التنازل عن ملاحقة إسرائيل في المحاكم والمحافل الدولية وهذا أضعف الإيمان. خصوصاً أنه لا يوجد أي أفق للتفاهم مع حكومة نتنياهو. والصفقة التي تمّت بين الإدارة الأميركية وحكومة إسرائيل، حسب تصريح مكتب نتنياهو، تتحدث عن تعهد إسرائيلي بعدم شرعنة بؤر استيطانية جديدة أو الإعلان عن خطط بناء استيطانية خلال الأشهر القادمة. وهذا لا يعني التوقف عن الخطوات التي تقرر اتخاذها، ولا يعني كذلك تعهداً بوقف السياسة الاستيطانية. بمعنى أن إسرائيل ستواصل البناء الاستيطاني بشكل مكثف، ولن تنتهي من بناء عشرة آلاف وحدة خلال عدة شهور وربما عام. والموقف الإسرائيلي هو الآخر مخادع ولا يمثل سوى لعبة مكشوفة سرعان ما يفتضح أمرها.
نحن لا نمتلك أي خطة لمواجهة سياسة الحكومة الإسرائيلية المفضوحة والمنبوذة، ونتصرف كالعادة بتوجيه دعوات ونداءات للتدخل، كما يحصل في كل مرة نواجه فيها عدواناً إسرائيلياً. حتى أن التوجه للمنظمات الدولية يتعثر وقابل للضغوط وللتراجع عنه، أو التريث به لعل بعض الأمور الإيجابية تحدث هنا وهناك. وعملياً نحن نراوح في المكان، وأي تقدم يحدث على الساحة الدولية يبقى أقل بكثير من الحد الأدنى المطلوب. والسبب هو الضعف الفلسطيني، الذي يتبدى في عدم وجود سياسة واضحة مبنية على تخطيط سليم، وعمل منهجي يستند إلى حشد الطاقات الشعبية الهائلة التي تظهر بشكل عفوي غير منظم في مناسبات متقطعة، وإلى خطوات وقرارات قيادية تنسجم مع التطورات السياسية والميدانية الحاصلة، خاصة تصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلي، وكذلك إلى خلق آليات للتعاون مع الدول العربية المركزية والمؤثرة، التي ينبغي ليس فقط للتنسيق معها، بل بناء تعاون إستراتيجي وثيق معها. هذا بالإضافة إلى حرث الأرض في الساحة الدولية التي باتت متروكة لإسرائيل للعبث بها وترويج روايتها الكاذبة لما يحدث على الأرض. والحكومة الإسرائيلية الحالية بسياستها العنصرية والإجرامية المعلنة تساعدنا كثيراً في حشر إسرائيل في الزاوية، وتعريضها لضغوط حقيقية.
للأسف، لسنا قريبين من استغلال اللحظة المناسبة للتفكير بشكل خلاق في كيفية استثمار عناصر القوة وأهم عنصر فيها الوحدة الوطنية، وإعادة بناء الثقة بين القيادة والشعب. وأولى الخطوات المطلوبة على هذا الصعيد الذهاب بأسرع لوقت لانتخابات عامة، وتشكيل حكومة وحدة جديدة تعبّر عن إرادة الشعب، وتعيد بناء السلطة على أسس صحيحة تخلصها من كل الشوائب والكوارث التي لحقت بها جراء الانقسام والتكلس وسوء الإدارة، وبما يمكّنها من التحوّل إلى مؤسسات دولة في إطار التخطيط للمستقبل.