لم يكن أحد يتصور أن الحكومة الإسرائيلية بتركيبتها الحالية ستلتزم بوقف الاستيطان مقابل تراجع الفلسطينيين عن الشكوى لمجلس الأمن، فالرجل الأقوى في هذه الحكومة على الإطلاق هو بتسلئيل سموتريتش وزير المالية ونصف وزارة الجيش بما يخص الضفة والاستيطان رئيس «الصهيونية الدينية». لذا بات من الضروري متابعة وفهم كيف يفكر ويتصرف هذا الرجل لمعرفة إيقاع الحركة السياسية وتطورات الصراع مع الفلسطينيين.
كل السياسيين الذين عملوا في الحكومات الإسرائيلية تنازلوا بعض الشيء عن مواقفهم وشعاراتهم السابقة نحو الحلول الوسط من أجل الشراكة إلا سموتريتش العقائدي المتصلب، والذي يعرف جيداً باعتباره حجر الزاوية لهذه الحكومة مكامن قوته القادرة على إسقاط نتنياهو وإرساله للمحكمة.
كيف لحكومة اتفقت في اتفاقياتها الائتلافية على أن «أرض الضفة الغربية هي أرض شعب إسرائيل يستوطن فيها كيفما شاء» أن توافق على وقف الاستيطان؟ كان الأمر بحاجة إلى هواة في السياسة ليصدقوا أن الحكومة الإسرائيلية ستقدم تنازلاً أيديولوجياً لوقف الخطوة الفلسطينية والتي لا تعني شيئاً بالنسبة للصهيونية الدينية، لكن الأمر لم يكن أكثر من محاولة أميركية رديئة الإخراج ضد الداهية بنيامين نتنياهو لتفكيك حكومته .
الديمقراطيون يكرهون نتنياهو ليس فقط منذ عهد أوباما بل منذ عهد كلينتون، وقد عمل بايدن كل ما في وسعه للحيلولة دون انتخابه، لكنه فاز ليشكل حكومة أشد تعارضاً معهم وتسبب لهم كل هذا الإحراج، سواء بالسياسات التي تتخذها أو بتغيير منظومة القضاء ما «يقضي على القيم المشتركة مع الولايات المتحدة».
سُعار الاستيطان دفع الفلسطينيين للذهاب لمجلس الامن. وهنا كان الموقف الأكثر حرجاً للولايات المتحدة، فهي من جهة ترفض هذا النهم الذي يقضي كما تقول على حل الدولتين ويفتح على خيارات الجحيم، ولكنها بالمقابل لا تستطيع التصويت بالموافقة وتنقلب فجأة على العلاقة الاستراتيجية السائدة ببين الدولتين. بل إن بايدن رأى أن الأمر بتلك البساطة يمكن أن يشكل فرصة لإسقاط حكومة نتنياهو من خلال نقل المعركة بين أعضائها حين يطالب بوقف الاستيطان، وهو يعرف أن هذا الشرط كفيل بانسحاب سموتريتش فوراً، وربما أن الفلسطينيين رأوا في تلك فرصة تستحق المغامرة بلا حسابات دقيقة ليقوموا بسحب مشروعهم.
لكن نتنياهو أكثر دهاء من ذلك، فهو سياسي محتال وخبير في لعبة البقاء، ولم تكن محاولة بهذه السذاجة يمكن أن تمر قبل أن يقلب الطاولة على رأس الفلسطينيين والإدارة الأميركية، ويذهب لصناعة معركة أمنية يغطي غبارها على كل الأحداث تبدأ في نابلس وتنتهي بصواريخ غزة وتستنفر مساعي التهدئة وتتكرم إسرائيل برد محدود إكراماً للوسطاء يكون موضوع الاستيطان قد اختفى تماماً، حيث لم يعد على الأجندة سوى الحيلولة دون حرب، وهكذا يكون نتنياهو قد خدع الجميع ليس فقط الفلسطينيين الذين خسروا مجلس الأمن وخسروا الميدان، بل الأهم كمين بايدن الذي أراد أن يستدرج نتنياهو نحوه.
لقد فكرت الإدارة الأميركية بمصلحتها فقط، فحكومة نتنياهو تصيبها بحرج شديد وتتمنى ان تصحو صباحاً وتجدها قد سقطت، فالحكومة ستعرضها للكثير من المواقف والضغط. ولكن لماذا يعتقد الفلسطينيون أن مصلحتهم باتت في إسقاط هذه الحكومة؟ فالسياق التاريخي يقول عكس ذلك. ومن أجل إثبات ذلك علينا أن نرسم سيناريو سقوطها وبإجراء حسبة بسيطة يمكن أن يكون الأمر أكثر وضوحاً.
إذا ما سقطت حكومة نتنياهو وتم انتخاب بديل فعلى الأغلب سيكون يائير لابيد، سيتنفس الأميركيون الصعداء سيحتضنونه مثل لعبة جميلة، وستحظى إسرائيل بحضن دولي دافئ يسمح لها بمزيد من القتل «حكومة العام الماضي سجلت رقما قياسيا «ومزيدا من مصادرة الأراضي ومزيداً من الاستيطان ومزيداً من تجاهل الفلسطينيين. كل هذا سيكون بتشجيع ورعاية أميركية وأوروبية بل وسيطلب العالم من الفلسطينيين السكوت نهائيا حتى لا يتم التشويش على لعبته الجديدة، هذا على الصعيد الدولي، أما على الصعيد الداخلي فستكون حكومة القانون وتنهي التفسخ في المجتمع الإسرائيلي وتزيد مناعته وتقوي اقتصاده.
الحكومة القائمة هي عامل مريح لكل خصوم إسرائيل وتحديداً الفلسطينيين، فهي حكومة أدت إلى شرخ في المجتمع الإسرائيلي وبوادر شرخ في علاقاتها الخارجية، فحتى الآن لم توجه دعوة لنتنياهو لزيارة واشنطن، وهي حكومة أدت إلى تخريب دولة القانون بخطة القضاء، حكومة تتسبب في انهيار اقتصادي وهجرة شركات ورؤوس أموال وتوقف المستثمرين عن الاستثمار بها، وستؤدي إلى تخفيض التصنيف الائتماني، بل إن أفضل ما تقدمه هذه الحكومة هو هذا الوجه البشع خارجياً والمتطرف داخلياً تجاه فئات المجتمع الأخرى. فلماذا يتعاون الفلسطينيون لإسقاطها لأجل حكومة معاكسة لكل هذا؟
هذه مصلحة أميركية بالكامل، ولكنها ليست بالضرورة مصلحة فلسطينية بل على حساب الفلسطينيين وضد مصلحتهم، وخاصة للتساوق الفلسطيني مع مصالح الإدارة الأميركية بثمن كبير على نمط التنازل عن الشكوى في المؤسسات الدولية؟... السياسة بحاجة لحسابات أكثر هدوءاً، حسابات المصلحة لا حسابات العواطف، فلا متسع للحب والكراهية في حسابات السياسة... الفلسطينيون يكرهون حكومة نتنياهو - سموتريتش- بن غفير لكن السياسة لا تقاس بالعواطف، إسرائيل تكره «حماس» وبشدة لكنها تمرر لها 30 مليون دولار شهرياً. فهل يمكن أن يتعلم الفلسطينيون درسين، الأول إنهاء هذا الانقسام، والثاني المساهمة بالإبقاء على حكومة التطرف والخراب.