لأنه لا توجد في إسرائيل حكومة مسؤولة ترى أبعد من مقاعد الحكم، أو تفكر في مستقبل الشرق الأوسط، بما فيه إسرائيل نفسها، فإن الاهتمام بمستقبل المنطقة بات شأناً إقليمياً أولاً ودولياً ثانياً، ولعل كل ما نتابعه من تعارضات بين أهم حليف لإسرائيل، نقصد الولايات المتحدة الأميركية وحكومة إسرائيل الحالية، يؤكد ما نقول، ولهذا فإن الدول العربية المحيطة بكل من فلسطين وإسرائيل، وبالتحديد مصر والأردن، ومع مرور الوقت بدأتا تشعران بأهمية وضرورة أن تتحركا بنفسيهما، من أجل تطويق ما يمكن أن تقدم عليه حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية من حماقات، تؤدي إلى إشعال حرب ضروس، قد تمتد مدياتها إلى ما هو أبعد من الحدود ما بين البحر والنهر.
وما لا تراه عيون التطرف في حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، هو الجغرافيا السياسية، حيث ليس لبنان وسورية فقط، بل الأردن ومصر وهي الدول التي لها حدود جغرافية مباشرة مع فلسطين التاريخية، أي مع دولة فلسطين وإسرائيل، لا يمكنها ولا بأي حال من الأحوال صرف النظر، أو عدم الاهتمام بما يحدث في فلسطين المحتلة من صراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خاصة مع طموحات إسرائيل التوسعية، ومع معتقداتها التوراتية، التي لا تكتفي بما هو بين البحر والنهر فقط، لهذا فإن مصر تهتم بشؤون غزة، الأمنية خاصة، ونراها تسارع إلى احتواء أي مظهر للتصعيد فيها أو حولها، لأن ذلك يؤثر مباشرة على الحالة الأمنية في سيناء، وقد تعاملت مصر طوال الوقت مع حالة غزة باعتبارها بعداً أمنياً مصرياً، بصرف النظر عن طبيعة النظام فيها، منذ عهد مبارك إلى السيسي مروراً بمرسي.
أما الضفة الفلسطينية فتعتبر بالنسبة للأردن أهم بكثير من البعد الأمني، وهو الذي تنتابه دائماً المخاوف من إقدام التطرف السياسي والعقائدي الإسرائيلي، في نهاية المطاف على الترانسفير والوطن البديل. فالأردن بكل أطيافه يرى في الدولة الفلسطينية في الضفة الفلسطينية حائط صد رادعاً لأي طموحات محتملة من قبل التطرف الإسرائيلي للتفكير بمتابعة التوسع لإقامة إسرائيل الكبرى، على حساب أرضه ودولته، وربما كان حال مصر مع غزة أقل إثارة للمخاوف، مع لفظ إسرائيل لغزة، وعدم تفكيرها بإعادة احتلالها نظراً لضيق مساحتها واكتظاظها السكاني، في حين الوضع بالضفة مختلف تماماً، فإسرائيل تكاد تجمع على عدم الانسحاب الكامل منها.
والتطرف الإسرائيلي لديه من العمى السياسي الشيء الكثير، فهو يظن أنه بتجاوزه فلسطين، بالسعي للتطبيع مع المحيط العربي، ينجح في ابتلاع الأرض الفلسطينية، وفي طيّ صراعه معها ومع شعوب الشرق الأوسط، وهو لا يدرك أنه بتجاوزه فلسطين، يتجاوز أيضاً كلاً من الأردن ومصر، أي أن إسرائيل مقابل التطبيع مع العربي البعيد، تحدث شرخاً في علاقتها مع العربي القريب، وهي مقابل اتفاقيات أبراهام، حيّدت أو وضعت جانباً أو على الرف علاقتها مع مصر والأردن، ومع فلسطين بالطبع، إضافة إلى علاقتها العدائية تجاه سورية ولبنان.
أي أن إسرائيل تقفز عن الجوار إلى البعيد، وهي بتجنّب حل المشكلة الأساس تظن أنها تهرب منها، تماماً مثل النعام الذي يدفن رأسه في التراب ظناً منه أن أحداً لا يراه.
والعمى السياسي الإسرائيلي، والذي له أسبابه العديدة والمختلفة، رغم أن إسرائيل دولة مؤسسات تعتمد على مؤسسات تقدم لحكوماتها التقارير الإستراتيجية، إلا أن ظروف تأسيسها فرضت عليها رؤية ضيقة، أو أن الزمن تجاوزها، فهي ما زالت تربط مصير ومستقبل علاقاتها بالمنطقة والعالم، بالحكومات وبأنظمة الحكم، وليس مع الشعوب، ولهذا فإنها في صراعها مثلاً مع «حزب الله» في لبنان، وما ألحقته به من دمار وقتل، لم تر ما أحدثه ذلك في نفس الشعب اللبناني بأسره، وهي حين تواصل أعمال القصف والقتل في سورية، لا تدرك أن تلك الأفعال، تعمّق كراهية الشعب السوري - على اختلاف مواقفه من النظام - لها، وهي حين تقصف قطاع غزة، وتحدث فيه أعمال القتل والتخريب والتدمير، لا تفكر للحظة أن ذلك لا يردع المقاومة بشيء، بل يزيدها إصراراً على خيارها، والأهم أنه لا يترك مواطناً واحداً في غزة، يمكنه أن يقتنع بحسن الجوار معها، كذلك هي حيث تواصل اقتحام المدن الفلسطينية في الضفة، وتقتل الشبان والأطفال، لا تدرك أن ذلك يجعل من احتمال عقد السلام معها أمراً مستحيلاً.
باختصار، إن أحداً في إسرائيل لا يفكر اليوم فيما سيحدث حقاً، لو أن التطرف الإسرائيلي، نجح في نهاية المطاف بإغلاق حل الدولتين، حيث أقل ما يمكن أن يقال هو إن ذلك لن يعني إنهاء الصراع، لا الفلسطيني وحسب، بل إن ذلك سيفتح الصراع العربي/الإسرائيلي مجدداً، وبشكل مختلف تماماً عما كان عليه قبل عقد اتفاقيات السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن.
ولعل اللحظة الراهنة تعتبر مفترق طرق حاسماً، إزاء مستقبل سيكون أكثر تعقيداً لو ترك التطرف الإسرائيلي يقارع الشعب الفلسطيني وحده، لذا فإن الأردن ومصر تتدخلان اليوم بهدوء وثبات وثقة، ليس تعاطفاً وانتصاراً للحقوق الفلسطينية وحسب، بل أيضاً للدفاع عن مستقبليهما كدول وشعوب، وهذا من حقهما تماماً، حتى لا تضطران بعد ذلك إلى الدخول فعلياً في حرب مجدداً مع إسرائيل، هذه الحرب التي قد لا تقتصر على الحرب بين الجيوش فقط، ذلك أن المخزون الشعبي العربي ضد إسرائيل محتقن جداً، ويمكن إدراك هذا والوقوف عند أبعاده بمجرد متابعة واستقصاء ما تصرح به الشعوب والمواطنون العرب في كل مكان، خاصة في كل من مصر والأردن، حيث ما زالت اتفاقيات السلام بينهما وبين إسرائيل معلّقة فقط على الرف الرسمي، دون أن يشجع السلوك الإسرائيلي، خاصة تجاه الملف الفلسطيني، أيّاً منها على الثقة بأن إسرائيل قد تحولت إلى دولة بحدود محددة وواضحة، دون طموح التوسع الجغرافي، فضلاً عن السياسي والأمني في دول الجوار القريب وحتى البعيد، ويتأكد ذلك من استمرار إسرائيل بمحاولة إفراغ كل المنطقة من عناصر القوة والردع، وصولاً إلى إيران.
في هذا السياق، جاء انعقاد المؤتمر الأمني في مدينة العقبة الأردنية، حيث تسعى الأردن ومصر ومعهما أميركا الحليف الحقيقي لدولة إسرائيل، المتحفظة على التطرف الإسرائيلي الحالي، إلى احتواء الاندفاعة التوتيرية لهذا التطرف، بمحاولة تهدئة تبقي على أقل تقدير الوضع الحالي أو المتوارث منذ عقود على ما هو عليه، ومن ثم التفكير في التقدم خطوة خطوة، كما أشار قبل وقت وزير الخارجية الأميركية، نحو تكفيك منظومة التصادم، وفتح الأفق مجدداً أمام الحل الذي لا بد منه بين إسرائيل وفلسطين، خاصة قبل حلول شهر رمضان المبارك، حيث تعودت جبهة الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي على المواجهة خلال ذلك الشهر، على مدار السنوات الماضية، وإن لم يتم وضع الضوابط الأمنية المناسبة، فإنه من المتوقع أن تقع المواجهة غير القابلة للسيطرة من قبل النظام الإقليمي الذي لا يقتصر على إسرائيل وحسب، بل تشارك في إرساء دعائمه مصر والأردن، وبتقديرنا، لن تكف الأردن ومصر عن التحرك والنشاط السياسي، ولن تترك الساحة الإقليمية للتطرف الإسرائيلي يعبث بها، وفق معتقداته المتطرفة، مهدداً مستقبل المنطقة بالخراب والفوضى التي لن تبقي على أحد، بمن فيهم الإسرائيليون بالطبع.