أهون الشرور..!!

izhM5.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 


جاء في أمثال العرب: "اتسع الخرق على الراتق". وفي تفسيره: "يُضرب في الأمر الذي لا يُستطاع تداركه لتفاقمه". وهذا ما يمكن أن يُقال، اليوم، في "أمر" الاحتلال الإسرائيلي، الذي أراد البعض تداركه "بحل الدولتين"، و"عملية السلام". وعلى مدار عقود صارت طويلة، يتم إصلاح العطب الذي ضرب مفاصل الحل والعملية، في آن، بمسكنات من نوع "التفاهمات"، و"خفض التصعيد"، و"بناء الثقة".
وما من شيء يختزل تدهور القيمة الاستعمالية، والرمزية، للحل والعملية، وفشل المسكّنات، أكثر من حقيقة أن الأميركيين، وهم القوّة العظمى، وأصحاب النفوذ الكبير في الشرق الأوسط، لا يراهنون، في الوقت الحاضر، في التحليل الأخير (وبالعربي الفصيح، كما ذكرت مصادر مختلفة) على أكثر من "عبور رمضان القادم بخير"، رغم ما يتناثر في الأجواء من بلاغة أقل دنيوية وأكثر تسامياً. وما يُضفي على الأمر دلالات تراجيديا إغريقية، فعلاً، أن الفترة الزمنية الفاصلة بين "التفاهمات" صارت تُقاس بالأيام، وأحياناً بالساعات، نتيجة أحداث يصعب السيطرة عليها على الأرض.
لا يكفي، ولا يفي بالغرض، القول، إن العيش من تفاهم إلى آخر، ومن "رمضان" إلى آخر، وأحياناً من أسبوع، إلى آخر، منذ أوسلو، يُقاس الآن بالعقود لا بالسنين، وأن وضعاً كهذا يشبه العيش في دائرة جهنمية مُغلقة ومُفرغة، بل ويجب القول، إن الدائرة لم تكن في يوم من الأيام عبثية، ومفرغة من المعنى، بالنسبة للفلسطينيين، كما هي الآن.
وما من دلالة للعبثي أكثر من جعل العيش ما بين تفاهم وآخر أسلوب حياة لملايين من بني البشر، بلا أفق، ولا نفق، ولا ضوء في آخره. وفي خلفية هذا كله تضخّم دلالة البعد الأمني للتفاهمات على حساب بعدها السياسي. فقد بدأ أوسلو بفترة انتقالية تنتهي بعد خمس سنوات، ويدور الكلام، الآن، عن إجراءات أمنية يومية وموضعية (تخص هذا المكان أو ذاك) وعن "ضبط للنفس" إلى حد يبدو معه ذهاب الفلسطينيين إلى مجلس الأمن، أو محكمة العدل الدولية، جنوحاً إلى التطرّف إلى حد يبرر عقابهم، وابتزازهم بلقمة العيش.
وما يعزز من دلالة العبثي، والتراجيدي، في آن (إذا وضعنا الأميركيين جانباً) أن ليس في جعبة أحد، أو على لسانه، في الإقليم والعالم، ما هو أبعد مِن "حل الدولتين" و"عملية السلام" رغم إدراك مسبق، وبدرجات لم تعد متفاوتة، لحقيقة أن كلا الأمرين لم يعد قائماً في الواقع، وأن أدوارهم في بلورة تفاهمات تزداد هشاشة بشكل مطرد من ناحية عملية، صارت تشبه "النفخ في قربة مقطوعة".
ورغم ما يسم واقعاً كهذا من مأساوية إلا أن ديمومته تنطوي على احتمال مُفزع. فبعد هجوم المستوطنين على حوّارة قبل يومين، لا يحق لأحد الزعم بأنه لم ير إشارة "قف" الحمراء، ولم يسمع جرس الإنذار. في تعليقها على ما حدث في حوّارة ذكرت "هآرتس" الإسرائيلية، "يبدو أن الجيش فقد السيطرة لبضع ساعات" هناك. وقد يكون هذا صحيحاً، أو مجرّد محاولة للحيلولة دون كشف تواطؤ الجيش مع المستوطنين.
وفي الحالتين، هذا ليس مربط الفرس، بل دلالة هجوم المستوطنين على قرية فلسطينية في الضفة الغربية، والطريقة التي تم بها (من حيث الكثافة والعنف وأعداد المشاركين) من ناحية، واعتداء المستوطنين على مواطنين فلسطينيين في اللد وحيفا خلال صدامات وقعت قبل عامين من ناحية ثانية.
ثمة علاقة عضوية بين الحدثين. وإذا وضعنا هذا كله على خلفية التحوّلات السياسية، والأيديولوجية، التي تثير ذعر وغضب آلاف مؤلفة من الإسرائيليين، الذين لم يكفوا عن التظاهر منذ عودة نتنياهو إلى الحكم، وتشكيل حكومته، نكون قد اقتربنا من تشخيص وضع تلوح فيه "الحرب الأهلية" كاحتمال ينبغي أخذه على محمل الجد، لأنه صار، فعلاً، على جدول الأعمال.
قبل أيام، نشر إلياس خوري مقالة ذكّر فيها برواية عاموس كينان "الطريق إلى عين حارود"، عن حرب أهلية مُحتملة بين الإسرائيليين، وعن نجاة الإسرائيلي بمساعدة الفلسطيني الذي سيأخذه إلى منطقة آمنة. ومع ذلك، الحرب المتوقّعة، بقدر ما أرى، تدور بين الفلسطينيين والمستوطنين، ومكانها الفعلي هو الضفة الغربية.
لم تنشب حرب كينان الأهلية، الذي عرفته بصفة شخصية أيضاً (وقد بدأ حياته في أقصى اليمين، وانقلب على مواقفه السابقة في فترة لاحقة من حياته) لأسباب تتعلّق بالمستوطنين، بل لأسباب أيديولوجية، ويُحسب له، في هذا الصدد، أنه جعل من الفلسطيني دليل الإسرائيلي الهارب في الطريق إلى عين حارود.
وعلى الرغم من حقيقة أن الكثير من المتظاهرين ضد الانقلاب القضائي يأخذون احتمال الحرب الأهلية بين الإسرائيليين على محمل الجد، إلا أن القليل منهم يفكّر في الفلسطيني كدليل محتمل على طريق الوصول إلى مكان آمن. لا يتنافى هذا التناقض، بقدر ما أرى، مع ضرورة تحويل "عين حارود" إلى مجاز لتفسير حرب "أهلية" يشعلها المستوطنون في الضفة الغربية، وتكون مرشحة للانتقال إلى كل مكان آخر. وإذا بدأت بالفلسطينيين فلن تنتهي بهم. فنحن نختار لغتنا، وفي اختيار مجازها ما يدل على علاقة صحيّة بأنفسنا، وبالنظر إلى الآخر، أيضاً.
في الطريق إلى عين حارود (الرواية) يريد الضابط الإسرائيلي الأسير قضاء حاجته، فيطلب من سجانه الفلسطيني أن يدير وجهه "فلا يليق بالفلسطيني أن يرى مؤخرة جنرال إسرائيلي"، كما يقول. وهذا، على أي حال، أهون الشرور.