ثمّة تصعيد في لغة الإدارة الأميركية إزاء ما يقوم به المستوطنون والجيش الإسرائيلي، إثر مجزرة حوّارة وما تلاها. تتحدث الإدارة عن إدانة ما يرتكبه المستوطنون، وتطالب بالمحاسبة، لكن هذا التصعيد في الكلام، يبقى دون سقف السياسة الأميركية التقليدية، التي لا ترقى إلى مستوى الفعل المؤثّر.
الفعل المؤثّر للسياسة الأميركية، يظهر دائماً في الوقوف بالمرصاد، والتهديد برفع «الفيتو» في وجه أي محاولة لاتخاذ قرار في مجلس الأمن أو أي مؤسسة دولية، يُدين السلوك الإسرائيلي.
تكرار هذا السلوك من جانب الإدارة الأميركية: مبعوثيها وممثّليها وسفرائها، يؤكد أن واشنطن لا يمكن أن تكون وسيطاً نزيهاً، ما يفقدها دورها وفعاليتها، حتى في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في اجتماع العقبة، ما يضيف عاملاً آخر يؤكد فشل ذلك الاجتماع، حتى قبل أن يجفّ حبر بيانه الختامي.
الضفة الغربية كلها، بمدنها وقراها، وأحيائها، تخضع لحربٍ شاملة يشنها المستوطنون، بمشاركة وحماية الجيش والشرطة الإسرائيلية.
ما وقع في حوّارة، ينطوي على مؤشّرات خطيرة، نحو تشجيع ميليشيات المسلّحين المستوطنين، نحو القيام بدورٍ أساسيّ ومباشر في مواجهة المقاومين الفلسطينيين.
يعكس هذا التطور توجُّهاً حقيقياً لدى السياسة الرسمية الإسرائيلية التي تدفع نحو إظهار الصراع في الضفة على أنه صراع داخلي بين سكان يهود، وفلسطينيين، وبأن الجيش يقوم بمهماته بحيادية، لضبط هذا الوضع.
يؤكّد ذلك، مطالبة وزير الجيش الإسرائيلي يُؤاف غالانت، بتمكين الجيش من القيام بدوره، في ضبط الأوضاع، كأنه فوق الجميع، لكن مشاركته في الأحداث، وحمايته للمستوطنين تفضح هذا التوجُّه.
على أن هذا التوجُّه لدى الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها العسكرية والأمنية الرسمية لم يمنع من وقوع احتكاكات بين الجيش وميليشيات المستوطنين، وتعرض بعض الجنود لاحتجاجات وإهانات من قبل مستوطنين.
في كل الأحوال، فإنه في ظل احتدام الصراع على الأرض، ووضوح الطرف المسؤول عن ذلك، فإن المجتمع الدولي لا يزال عند دوره في الإعلان عن القلق والتحذير، وتقديم النصح، بينما بلغت الأحداث حدّاً يستدعي من هذا المجتمع الدولي، تأمين الحماية للشعب الفلسطيني وإلّا فإن الأوضاع تتدهور نحو مواجهة شاملة، لا تنفع في منع تدهورها أي اتفاقات أو وساطات.
إذا كان المجتمع الدولي لا يرغب في سماع الخطاب الفلسطيني، والاستجابة لمتطلبات منع هذا الانهيار، والتدهور، فهل يستمع حلفاء إسرائيل إلى ما يقوله مسؤولون إسرائيليون، في وصف هذه الحكومة وسياساتها؟
رئيس «الشاباك» السابق يوفال ديسكين، الذي شارك في تظاهرات عارمة وواسعة، يوم أمس، يعبّر عن طبيعة هذه الحكومة بشكلٍ لافت حتى للأعمى.
يقول ديسكين: «في عهد هذه الحكومة تدهور الأمن القومي إلى أدنى مستوى له، ربما يكون الأسوأ في تاريخنا. هذه ليست حكومة (يمينية) كاملة، إنها حكومة إرهابية كاملة، ويحذّر من أن هذا الوضع قد ينتهي إلى حربٍ أهلية بسبب هذه الحكومة البائسة، لقد فكّكوا وحدتنا».
هذه حكومة إرهابية، كما يقول ديسكين، وتتحمّل المسؤولية عن احتمال نشوب حربٍ أهلية، فإذا كانت الولايات المتحدة، حريصة على حليفتها الاستراتيجية، فلماذا لا تمارس قدرتها الأكيدة، لمنع هذا الخطر المحدق بإسرائيل، ويُهدّد وجودها كمشروعٍ استعماري دولي؟
في الواقع، فإن الولايات المتحدة هي التي تتحمّل المسؤولية عن كل ما تقوم به حكومة الاحتلال العنصري الفاشي، التي أعلنت على لسان رئيسها نتنياهو وعدد من وزرائه تنصلها مما تمّ الاتفاق عليه في العقبة قبل أيام قليلة.
وزراء إسرائيليون وليس فقط إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش يعلنون على الملأ، أن الحكومة لن توقف برامجها الاستيطانية، ولن تلتزم بما جرى في العقبة، وبعضهم لا يعترف بمن حضر الاجتماع من الجانب الإسرائيلي.
حكومة نتنياهو تخوض حرباً على مختلف الجبهات، فهي تواصل برامجها نحو تحقيق الانقلاب القضائي، وحماية مُجرميها من العدالة، وتتسبّب في تأجيج التناقضات الداخلية، وتفسيخ المجتمع الإسرائيلي عموماً واليهودي على نحوٍ خاص.
وعلى مستوى الفعل الاحتلالي، لا تتوقّف الحكومة عن شنّ الحرب على الكلّ الفلسطيني، بكل الأشكال والوسائل، من خلال الاقتحامات والاعتقالات والقتل، ومصادرة الأراضي والاستيطان، واقتحامات المسجد الأقصى، وبالتالي، فإنها تحفّز الفلسطينيين نحو توسيع دائرة المقاومة بكافة الأشكال.
مع هذه السياسة الإرهابية، لم يعد ثمّة مجال لالتزام الشعب الفلسطيني بالمقاومة الشعبية السلمية، فلقد اندلعت شرارات المقاومة المسلّحة لتشمل كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما لا يسمح لا للسلطة ولا لأيّ أطراف من أن تنجح في احتواء المقاومة، وتحقيق خفض في التصعيد.
وعلى المستوى الدولي، لا يُبدي بنيامين نتنياهو وحكومته أيّ اهتمام للاحتجاجات والانتقادات والإدانات، والتحذيرات التي تصدر عن أطرافٍ متزايدة من المجتمع الدولي، بما في ذلك حلفاء إسرائيل.
أمام السلطة الفلسطينيين سقطت كافّة الذرائع والوعود، التي سعت إلى وقف توجُّه فلسطين إلى المؤسسات الدولية، حتى لو أن الولايات المتحدة وقفت في كل مرة لحماية إسرائيل.
يبقى على الفلسطينيين أن يستعيدوا وحدتهم وأن يُرمِّمُوا أوضاعهم الداخلية، والمبادرة نحو إعادة بناء التضامن العربي، بالتنسيق مع مصر والأردن، بعد أن نزعت السلطة الذرائع، وبرّأت نفسها من المسؤولية عن التصعيد المتزايد في الأراضي الفلسطينية المحتلة.