أكتب هذا المقال من وحي عشرات التقارير الصحافية، وكذلك الكتابات والملاحظات التي نلحظها جميعاً على مواقع التواصل الاجتماعي من أن الأجيال الشابّة الجديدة التي تقوم بأعمال المقاومة ضد الاحتلال ومستوطنيه إنّما يدفعها إلى ذلك اليأس وفقد الأمل.
حتى أن بعض الأوساط الإعلامية الإسرائيلية تذهب إلى هذا البُعد، وأحياناً بعض هذه الأوساط تتّسم تقاريرها والرُؤى التي تقدمها بالشجاعة، والدوافع الإنسانية، مهما ندرت أو كانت قليلة بالمقارنة مع تلك التقارير والأبحاث الإسرائيلية التي تُرجع تلك الدوافع إلى طبيعة شرّيرة داخل هذه الأجيال، وإلى حالة «التحريض» التي «تسود» في المجتمع الفلسطيني.
أما الإعلام العربي (فما شاء الله) إضافةً إلى (اليأس وفقد الأمل) يتبرّع على حسابه الخاص بإضافات خاصة في هذا التفسير تصل إلى إرجاع الظواهر الجديدة لحدود «أبعد وأعمق» من ذلك بكثير مثل «فورة الشباب، والطيش، والتسرُّع واللامسؤولية الاجتماعية».
بأشكالٍ غير مباشرة، وبمسمّيات ملتوية يجري التعبير عن ذلك بالخوف من «الفلتان» والدخول إلى حالات الفوضى العارمة، ما يُحتّم العمل على «الضبط» قبل فوات الأوان؟!
بطبيعة الحال، يوجد الكثير من جوانب الصحة في مُجمل هذه التفسيرات، كما يوجد خلفها دوافع وطنية حريصة، وأحياناً دوافع إنسانية لا يجوز لأحدٍ تجاهلها أو القفز عنها، تماماً كما توجد، أيضاً، البواعث المُغرضة، والنوايا الخبيثة، والاستهدافات الحاقدة، وكذلك المسمومة.
ما يهُمّنا هنا هو الجانب الأوّل والذي يتّصف بالبُعد الوطني المخلص وبالأبعاد الإنسانية، أيضاً.
وهنا بالذات، تفتقد التفسيرات للدقّة المطلوبة، وتكاد تفقد البوصلة في بعض الأحيان، ويلتبس الأمر وتختلط الأوراق، ليس هذا فقط، وإنما تغيب قراءة التحوّلات التي طرأت في البناء السياسي الفلسطيني في العقود الأخيرة، كمُحصّلة ونتيجة لتحوّلات اقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة قلّما يتمّ الانتباه لها.
الأجيال الشابّة الجديدة ليست يائسة ولا مُحبَطة على الإطلاق، وهذا التوصيف لا ينطبق عليهم بالذات، وهو ينطبق على غيرهم أكثر بكثير مما ينطبق عليهم.
الأجيال الشابّة، في ضوء «التحوُّلات» التي طرأت على المجتمع الفلسطيني وما وصل إليه النظام السياسي الفلسطيني من تهتُّل وترهُّل، وما آلت إليه حالة الانقسام من استقطابات وانزياحات وانحيازات مَرَضِيّة، وما وصلت إليه «السلطات» الفلسطينية من «محسوبيات» سياسية في هرم وبُنية هذه السلطات، إضافةً إلى أعتى أشكال هذا الفساد على الحالتين والسلطتين.. الأجيال الشابّة فقدت الأمل، وأصبحت يائسة من إمكانية الخروج الحقيقية من هذا الواقع بالمراهنة على التراجع أو المراجعة أو العودة عن هذا الواقع المرير والمُدمِّر.
وهذا النوع من فقد الأمل واليأس هو حالة وعي جديد بصرف النظر عن أشكال التعبير عنه أو القدرة على شرح أبعاده وفلسفته في هذه المرحلة.
والأجيال الشابّة الجديدة لم «تتربّ» بتأثير البُنية الثقافية للفصائل والمنظمات والأحزاب، صاحبة اليد الطُولى في علوم التبرير والتفسير، وفي فنون التأويلات والاستدراكات، وفي «أسواق عكاظ» السياسية، ومدارس وبرامج التسلية والترفيه السياسي التي احتلّت مساحة الوعي الوطني، وحشرت الوطن وكلّ القضية في مصالح وامتيازات الطبقة السياسية.
الأجيال الشابّة الجديدة تُعاني فعلاً من الانسحاق الاقتصادي، ومن التهميش الاجتماعي من جرّاء سياسات الاحتلال التي توغل في القتل والنهب والمصادرة والتهويد والإذلال، ولكنها بالمقابل تعاني ذلك كلّه، أيضاً، من غياب التنمية وتعاني من البطالة والفقر.
هذا هو اليأس وفقد الأمل الحقيقي، والفرق بين الأمرين شاسع وكبير، وهنا تنقص القراءة للواقع الفلسطيني الجديد.
اليأس وفقد الأمل الذي يولد ظواهر للتمرُّد على واقع الاحتلال وواقع الخُذلان الذي تُكرّسه الطبقات السياسية والاقتصادية .. الواقع الذي يُولّد ذلك هو الواقع الذي يمثل حالة من التحرُّر الجديد، واقع سقوط الأوهام، وسقوط المراهنات، والتحرُّر من غشاوة المرحلة وضبابها نحو نهج جديد عنوانه للمرّة الأولى بعد «أوسلو» مقاومة الاحتلال بكل السُبُل والإمكانيات، دون أي حسابات خاصة، أو مصالح فئوية أو حزبية، ودون مداورات واستدارات، وإنما بناء الأمل وتربية الوعي الوطني في أجواء المجابهة.
الأجيال الشابّة ليست مظاهر يأسٍ، والأمر ليس «نزوات كفاحية»، ولا حتّى «اجتراح بطولات فردية»، مع «أن مسألة من هذا النوع هي مسألة تثير الإعجاب، وترفع من معنويات الشعب»، وإنما ولادة طبيعية، وليست قيصرية لنهجٍ كفاحيّ ما زال في بداياته الأولى.
لم يعد بمقدور هذه الأجيال الشابّة أن تعزل نفسها عن قواعد المنظمات والفصائل، بل هذه القواعد موجودة في مركز الاشتباك، وهي أصبحت الآن واليوم الجسم المؤازر لهذه الأجيال الشابّة، بل إن هذه القواعد وبعض الكوادر الوسطى وحتى الأولى أصبحوا ويصبحون أكثر في كل يوم الحصن الشعبي الذي يحمي هذه الأجيال الشابّة، والذي يُوفّر لهم السُّور الشعبي الواقي لبطولاتهم وتضحياتهم.
ولأنّ هذا النهج، حتى وإن كانت إرهاصاته تمتدّ إلى مرحلة طويلة سابقة نسبياً فإن المطالبة بسرعة بلورة الأهداف والبرامج الذي سيسير عليه هذا النهج هي مطالبة مُبكّرة، بل ومُتسرِّعة، أيضاً.
مع بدء الاستجابات الشعبية لنداءات الأجيال الشابّة، ومع بدء المشاركة الشعبية الواسعة في التصدّي لعصابات الإجرام الاستيطاني، ومع الشروع بتشكيل بعض فرق الحراسة الوطنية، وتنظيم حماية القرى والشوارع والممتلكات ستتبلور في الواقع الجديد التشكيلات الضرورية التي ستأخذ على عاتقها تحديد المطلوب من الأهداف والبرامج والاستراتيجيات.
لا تنضجُ الظواهر الاجتماعية الكبيرة بالرغبات، ولا بـ»خدمة التوصيل»، وإنما بالتفاعل النشط بين ظروفها الحاسمة والمُقرّرة في المدى الزمني الضروري لهذا النضج.