بادئ ذى بدء، أسجل قلقى الشديد من مستوى الحوار العربى - العربى، إعلاميًا ومجتمعيًا، وبين الحين والآخر، حتى من المسؤولين، لعدم دقته ومبالغاته وأحيانًا لتجاوزاته.
فوصف كل الخطب بأنها تاريخية، أو الإعلان دومًا أن هناك تطابقًا كاملًا فى مواقف الدول خطأ جسيم.. فمع أهمية خُطب المسؤولين، ومرور المنطقة بأحداث وظروف ومناسبات ومضامين استثنائية مثل الحرب والسلام.
أو ما يعتبر مؤشرًا لعقد اجتماعی جديد بين الحكام وشعوبهم، فإن أغلب الخطب والمناسبات تقع فى صميم الإدارة اليومية للأمور، والخلط فيما بين القضايا المعتادة مع أهميتها التاريخية خطأ، بل أراه خطيئة، لأن الكثير من المبالغين على يقين كامل بعدم دقة ذلك، والنتيجة تضليل مسىء للرأى العام.
وأخشى أن تَرفع هذه المبالغات الرسمية والإعلامية من مستوى التوقعات والآمال بعيدًا كل البعد عن المتاح، وأن تنتقص المبالغات من مصداقية التصريحات الرسمية، وتغذى آمالًا غير واقعية وسياسات شاردة، ومِن ثَم تترتب عليها ردود فعل عصبية غير مناسبة وخارجة عن السياق.
كما يؤسفنى أن نشهد تراشقًا وتجاوزًا عبر شبكات التواصل الاجتماعى العربى، لأنه يترك آثارًا سلبية وتداعيات متراكمة فى نفوس الشعوب والحكومات، تُضخم الاختلافات وتصعّب من تجاوز الخلافات فيما بعد، فضلًا عن أنها ممارسات مرفوضة شكلًا وموضوعًا بين أعضاء العائلة العربية الواحدة، مهما اختلفت المواقف أو تباينت الأولويات.
وتأكيدًا لأهمية الالتزام بالواقعية والموضوعية وعدم التجاوز فى حواراتنا العلنية، أتطرق للعلاقات المصرية والكويتية والسعودية والإماراتية على سبيل المثال، واخترت هذه الدول لقوة العلاقات فيما بينها، وصلابتها تاريخيًا.
وقف كلٌ منها بقوة ودون تردد دعمًا للآخرين فى ظروف قاهرة وقاسية وضغوط داخلية وإقليمية ودولية، وسيظل ذلك الدعم مستمرًا ولن يقف أى منها أمام مصلحة وطنية للأطراف الأخرى، أو تتخذ عمدًا إجراءات تمس الأمن القومى لأى منها، وجميعها دول عربية شرق أوسطية عانت من الاستعمار والاستغلال الأجنبى والتحديات الداخلية.
وعلى الرغم من تقارب وقوة علاقات هذه الدول، فلا أتردد أو أخجل من القول بصراحة تامة إن علاقاتها لم تكن دائمًا متطابقة فى الماضى، وليست متطابقة بالكامل الآن، ومن يدّعِ ذلك فهو غير ملم بالمواقف والسياسات أو يبالغ ويجامل فى التعبير.
وأرى أنه من الطبيعى أن يكون هناك بعض التباين فى ترتيب الأولويات فيما بين كل هذه الدول، باعتبار أن إحداها دولة عربية فى شمال إفريقيا كثيفة السكان، لها احتياجات ضخمة وطموحات كبيرة فى ظل مشاكل فى الجارة الليبية غربًا، وتوقف عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية شرقًا، ومشاكل جنوبًا ارتباطا بقضية المياه، وأخرى خليجية أصغر حجمًا سريعة الحركة، تسعى لتبنى سياسات غير تقليدية، وتتعرض لمخاطر إقليمية.
ودولة خليجية ثانية تعرضت تاريخيًا لتحديات جسيمة، ولها تشكيل مجتمعى مُركّب وحساس يجعلها تتخذ قراراتها بحذر.. ودولة خليجية ثالثة كبرى باتت طويلًا الأكثر تحفظًا، تواجه مخاطر من دولة مجاورة، وتشهد تحولات مجتمعية داخلية مهمة، فى الوقت الذى تسعى فيه لممارسة دور متجدد دوليًا ومميز على المستوى الخليجى، وكذلك فى الساحة الاقتصادية الدولية.
ولا أرى غضاضة فى عدم تطابق مواقف هذه الدول، بل لا أرى إمكانية تحقيق تطابق كامل ودائم، لا أراه واقعيًا أو حتى مفيدًا، فهل ننسى اختلاف أمريكا مع أغلب حلفائها حول غزو العراق؟، وما المانع أو الغريب حتى أن تتنافس الدول العربية بين الحين والآخر فى مجالات ومساحات معينة؟، وما مبرر الانزعاج فى ظل أن ما يجمعها أكثر مما تختلف حوله؟.
ولن تقف إحداها حجر عثرة أمام مصلحة جوهرية لأخرى، وسبق أن وقفت مساندة لبعضها عندما تعرضت لظروف قاهرة، ويجمعها توافق فى التوجهات والأهداف الاستراتيجية فى ليبيا واليمن وتجاه إيران، حتى إن تزامنَ ذلك مع قدرٍ من التباين التكتيكى أحيانًا فى تعاملها مع مختلف تلك القضايا وغيرها.
ونتيجة لعدم دقة الخطاب السياسى العربى والمبالغات حول التطابق أو التباين التكتيكى أو فى الأولويات، ذهب البعض إلى أن هناك توترات فى العلاقات المصرية - الإماراتية، وتوترًا فى العلاقات المصرية - الكويتية، وهشاشة وتنافسًا إماراتيًا - سعوديًا، وتم تداول تقديرات خاطئة ومبالغات حول برود فى العلاقات المصرية - السعودية، وأغفل البعض فى الوقت نفسه المواقف الوطنية والقومية لكل منها تجاه الآخرين أمام التحديات والصعاب الجوهرية والوجودية.
وعلينا التعامل رسميًا مع الأمور بواقعية، وتوصيفها بدقة حتى إذا وُجدت اختلافات بين الحين والآخر!.
وللأسف، شهدنا فى الآونة الأخيرة بعض التوترات والتجاوزات فى شبكات التواصل الاجتماعى والإعلام فى هذه الدول الصديقة، رغم قوة العلاقات بين هذه الدول تاريخيًا وحاضرًا، والتى ستستمر قوية مستقبلًا.
وشهدنا مبالغات وتجاوزات مماثلة فى الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعى لدول عربية أخرى، كذلك الممارسات الخاطئة ممتدة ومنتشرة غربًا وشرقًا وجنوبًا.
وإزاء كل ذلك، أرى أهمية ضبط الخطاب السياسى العربى، وذلك بمزيد من الشفافية والوضوح من قِبَل الحكومات، ليكون الرأى العام على بيّنة بالأمور ومقدرًا للفرص والتحديات، ويجب أن يسود الالتزام والانضباط المهنى فى الأجهزة الإعلامية، ليقوم كلٌ منها بدوره، بما فى ذلك المصارحة والمكاشفة، ولكن دون المساس المبرح بالغير.
وأتمنى أن يلتزم المشاركون فى شبكات التواصل الاجتماعى العربى، خاصة من الخبراء والمساهمين فى مراكز البحث، بالتناول العلمى والمنهجى للأمور والقضايا بعيدًا عن التجاوزات اللفظية، لنشجع الحوار العربى البَنّاء بين الدارسين والمختصين، ونجعله حوارًا ثريًا حول ما يجمعنا أو نختلف حوله.
أتمنى أن تشهد الحوارات العربية المزيد من المكاشفة والمصارحة والشفافية والمهنية والموضوعية، وتقبّل الرأى والرأى الآخر دون تجاوزات، ليتمكن العالم العربى من التصدى للتحديات الجسيمة التى أمامه، واستثمار ما يجمعنا لاستغلال الفرص المتاحة من أجل توفير مستقبل أفضل وآمن لشعوب المنطقة.