مستقبل مبادرات التهدئة في الأراضي الفلسطينية

xJUE7.jpeg
حجم الخط

بقلم سنية الحسيني

 

 

 


شهدت الأراضي الفلسطينية العديد من مبادرات التهدئة في الأيام الأخيرة، في ظل تصعيد إغارات قوات الاحتلال على الفلسطينيين وتزايد جرائم القتل اليومية بحق أبنائهم، وارتفاع أعداد عمليات المقاومة والتصدي للمحتل. وأتت هذه سواء من خلال الزيارات المكوكية الأخيرة لمسؤولين أميركيين إلى المنطقة، أو عبر دعوات غزة لضبط النفس في أعقاب كل جريمة يقدم على فعلها الاحتلال في الضفة الغربية، أو بالمبادرة بعقد لقاء العقبة التي جاءت قبل أيام. ويبدو أن الإدارة الأميركية تعطي أولوية لتحقيق التهدئة في الأراضي المحتلة، خصوصا قبل حلول شهر رمضان في الأسبوع الثالث من الشهر الجاري، وعادة ما يحمل معه مزيداً من التوتر والتصعيد، في ظل تضييق حكومة الاحتلال ومستوطنيها على الفلسطينيين في ممارسة طقوسهم الدينية المعروفة خلاله في المسجد الأقصى. لم تنجح مبادرات التهدئة حتى الآن، وليس هناك مؤشرات لنجاحها، ويبدو أن على الإدارة الأميركية مراجعة شروط تحقيق التهدئة، والاستفادة من تجارب الماضي وتطورات الأحداث لتحقيق اختراق حقيقي، في ملف لا يمكن أن يقيَّم أداؤها في إطاره إلا بالفشل.
تأتي مبادرات التهدئة المتعددة في الفترة الأخيرة في ظل ارتفاع موجة التصعيد في الاراضي المحتلة، بين قوات الاحتلال والشعب الفلسطيني، فشهدت الأراضي الفلسطينية خلال العام الماضي تصعيداً احتلالياً خطيراً واعتداءات غير مسبوقة من قبل جيش الاحتلال أو مستوطنيه، وارتفع عدد الشهداء الفلسطينيين بشكل ملحوظ، كما ازدادت أيضاً وتيرة عمليات المقاومة. ومع تنصيب الحكومة الاسرائيلية اليمينية المتطرفة الجديدة مطلع هذا العام، بدا الأمر يتجه نحو التصعيد والتعقيد.
 قد يكون من أكثر تلك المبادرات وضوحاً اجتماع العقبة الذي جاء قبل أيام، وضم بالاضافة الى الولايات المتحدة وإسرائيل، مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. ولعله من المفيد تتبع الأحداث التي جاء لقاء العقبة في سياقها، وفحوى بيانه الختامي، والأحداث التي جاءت في أعقابه، لاستكشاف واقع الحال في الأراضي الفلسطينية، وقراءة فرص التهدئة، في ظل بقاء المعطيات القائمة. سبق عقد القمة بأيام إقدام قوات الاحتلال على اقتحام مدينة نابلس وقتل أحد عشر فلسطينياً وإصابة مائة آخرين، عدد منهم لايزال يرقد في حالة الخطر. التزمت قوات الاحتلال في أعقاب تلك المجزرة حتى يوم اللقاء في العقبة بعدم اجراء اقتحاماتها المعتادة للبلدات الفلسطينية ومهاجمة الفلسطينيين للاعتقال أو القتل.
جاء في البيان الختامي لهذا الاجتماع التزام الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي بجميع الاتفاقيات السابقة، أي اتفاق أوسلو وملحقاته، على الرغم من أن عدم التزام إسرائيل بها على مدار ثلاثة عقود قد غير من واقع الأراضي الفلسطينية كثيراً، لدرجة جعلت البعض يعتبر تلك التغيرات باتت كفيلة بتقويض فكرة وجود دولة فلسطينية ذات سيادة، والتي كان يفترض أن يحصل عليها الفلسطينيون بعد خمس سنوات من توقيعها. كما أكد البيان على تجديد التزام الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي بالعمل على خفض التصعيد، وهو الهدف الرئيس من اللقاء، حيث جاء ذلك الالتزام مرتبطاً بالبند التالي والمتعلق بعدم إقدام الطرفين على أي إجراءات أحادية الجانب لمدة تتراوح ما بين ثلاثة إلى ستة أشهر، والتي تتعلق بتحركات الفلسطينيين في المحافل الدولية، وتجميد الاحتلال لمشاريعه الاستيطانية وشرعنة البؤر.
ولعله من الواضح أن مخرجات اللقاء والمرتبط بقضايا معينة وجدول زمني محدد، تتعلق بالجانب الأمني البحت المرتبط بالتهدئة، وليس له أية علاقة بتفاهمات أو مساع للوصول لحلول سياسية مع الفلسطينيين، وهو ما لم تخفه الإدارة الأميركية الحالية منذ وصولها للحكم.
 في أعقاب اللقاء خرج المسؤولون الإسرائيليون، بمن فيهم رئيس الوفد الإسرائيلي، للتأكيد أنه ليس هناك أي قرار بتجميد الاستيطان، لكن المسؤولين الإسرائيلييين تحدثوا عن تشكيل لجنة أمنية إقليمية لمنع التصعيد قبل رمضان، وتشكيل لجنة اقتصادية لبناء الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واستضافة مصر للقاء التالي في شرم الشيخ قبل شهر رمضان.
أثناء انعقاد هذا اللقاء قُتل مستوطنان بالقرب من بلدة حوارة شمال الضفة الغربية، وانتهى ذلك اليوم باعتداءات إجرامية لمئات المستوطنين على البلدة، حيث قُتل وأُصيب العديد من الفلسطينيين كما تم حرق وتدمير مئات السيارات والمنازل للسكان العزل، وهي إجابة واضحة على مبادرات التهدئة التي تقودها أميركا، وسعى إليها لقاء العقبة الأخير. ويفصح اعتداء المستوطنين على حوارة عن واقع الفلسطينيين في أرضهم وعن تطور خطير في أوضاعهم، وقد يعكس بداية مرحلة متقدمة في صراعهم مع الاحتلال. فقد تم زرع المستوطنات والمستوطنين في أراضي الفلسطينيين وبين مدنهم وقراهم وأحيائهم، لفصل الفلسطينيين وعزلهم عن بعضهم البعض وقطع تواصلهم منذ احتلال باقي الأراضي الفلسطينية على ١٩٦٧، كما جرى بوعي توسيع رقعة الاستيطان وزيادة عدد المستوطنين بعد توقيع اتفاق أوسلو، لفرض الوجود اليهودي داخل أراضي الضفة الغربية، كما جرى تسليح المستوطنين وتدريبهم على القتال، والسماح لهم بالإغارة على الفلسطينيين، ومهاجمتهم، في حين جُرد الفلسطينيون من سلاحهم وأُخضعوا للمراقبة والمتابعة والملاحقة. ويذكّر ذلك دون مواربة بعهد الانتداب البريطاني، والنهج الذي اتبعه من دعم لليهود بالسلاح والتدريب، ومعاقبة الفلسطينيين على ممارسة أي عمليات مقاومة أو اقتناء للسلاح. كما يذكّر ذلك الأمر أيضاً بالعقيدة الصهيونية التي تقوم على أساس الاستيطان وإحلال المهاجرين محل السكان الأصليين واستخدام القوة، وهو الأمر الذي أنتج في النهاية تلك المجازر بحق الفلسطينيين خلال عقد الأربعينات من القرن الماضي، والتي خلقت عملية تهجير لنصف الشعب الفلسطيني تقريباً، وواقعاً جغرافياً وديمغرافياً جديداً في فلسطين، ويعد وصمة عار في جبين الانسانية.
قد يعتقد البعض أن التصعيد الأخير في الأراضي المحتلة جاء بعد وصول حكومة نتنياهو الجديدة اليمينية المتطرفة، الا أنه وبغض النظر عن تحفظ جهات عديدة، منها جهات إسرائيلية على تركيبة وسلوك هذه الحكومة الجديدة داخلياً، نجد أن ما يحدث الآن في الأراضي المحتلة، ما هو إلا تطور طبيعي لسياسة إسرائيلية رسمية مبرمجة، بدأت منذ الاحتلال عام ١٩٦٧ واستكملت في أوسلو، حيث ركزت حكومات الاحتلال بتعدد أطيافها، على فرض واقع على الفلسطينيين، على أساس أنهم الطرف الضعيف الذي ليس أمامه خيار غير القبول بما تفرضه عليه سلطات الاحتلال، بتغطية أميركية ومباركة غربية. بدأت تلك السياسة باغلاق الأفق السياسي أمام الحل العادل للفلسطينيين، الذي جاءت اتفاقات أوسلو على أساسه، وأغلق مباشرة بعد توقيعها، وانكشف ذلك التوجه رسمياً في اطار مباحثات كامب ديفيد ٢ نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي، في ظل تقييد حركة وقدرة الفلسطينيين. واستكملت هذه السياسة من خلال حصر إقامة الفلسطينيين في أراضيهم من جهة، وتوسيع سيطرة اليهود على هذه الأراضي وزيادة عددهم فيها من جهة أخرى. ويبدو ذلك جلياً في اتفاق تقسيم الأراضي المحتلة لثلاث فئات، تبعاً للكثافة السكانية الفلسطينية. واكتمل المخطط بتوسع استيطاني محموم، لتغيير الوضع الجغرافي والديمغرافي في الضفة الغربية.
في كل مرحلة من مراحل الاحتلال تخلق كل حكومة سياسة لترسيخ وجود إسرائيل على حساب الفلسطينيين، وتقليص فرص حصولهم على استقلال حقيقي. وبدأت فكرة بناء البؤر الاستيطانية في العام ١٩٩٣، في عهد رئيس الوزراء إسحاق رابين للتحايل على تقليص الاستيطان، الذي افترض حدوثه بعد توقيع اتفاق أوسلو في العام ١٩٩٨، ظهرت في المستوطنات مجموعات متطرفة تعمل على إرهاب الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم وبناء بؤر استيطانية عليها. واعتبر ذلك في حينه مساعي من داخل الحكومة الإسرائيلية نفسها لتعطيل تنفيذ التزامات الحكومة الإسرائيلية في إطار اتفاقياتها مع الفلسطينيين وإحباط محادثات السلام المزمع عقدها في وقت قريب في حينه. ويبدو أن مثل هذه المجموعات لها دور محدد، لمساعدة الحكومة في تحقيق أهدافها، بشكل غير مباشر، تماماً كما لجماعات الهيكل والتي تقوم باقتحام المسجد الأقصى دور مشابه، وكل في مجاله، وهو ما يعرف بالتقاسم الوظيفي بين الحكومة وأذرعها غير الرسمية.
اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين ليست وليدة لحادث حوارة، إنها ممارسة تصاعدت في عهد أوسلو في جميع أنحاء الضفة الغربية، مَن منا يمكن أن ينسى الطفل دوابشة الذي قُتلت عائلته الآمنة في منزلها حرقاً نتيجة اعتداء المستوطنين قبل سنوات، ونجاته بصعوبة ليبقى شاهداً على هذه الجريمة. الا أن تبجح المستوطنين في حوارة ووقوف دولة الاحتلال متفرجة، في ظل دعوات هذه الحكومة بزيادة عدد تصاريح حمل المستوطنين للسلاح، تشير إلى تطور مهم في سياسات الاحتلال، يجب وضعها بعين الاعتبار، وعدم فصلها عن سياقها التاريخي. كما تبدو المقاومة الطريق الوحيد أمام الفلسطينيين، في ظل عدم تفهم الولايات المتحدة والغرب لحالة الاحتلال والمعاناة الفلسطينية، رغم مرور كل هذه السنوات، اذ تبدو المقاربة الأميركية والغربية غير منطقية في التعامل مع الفلسطينيين، وغير مقبولة أيضاً من قبل الشعب الفلسطيني.
تقف الولايات المتحدة متفرجة على إجراءات الاحتلال بحق الفلسطينيين، وتقبل بالتعامل مع الحكومة اليمينية الجديدة، رغم تطرف أهدافها وتصريحاتها وإجراءاتها تجاه الفلسطينيين، في حين تدعو الفلسطينيين لضبط النفس، وعدم التصدي للاحتلال، وتكتفي بتقديم وعود تتعلق بتحسين حياتهم. إن المشكلة التي يبدو أن الولايات المتحدة تصر على تجاهلها هي الاحتلال. وقد يكون الدرس المهم لهذه الإدارة أنه بعد ثلاثة عقود من توقيع اتفاق أوسلو لم يعد أسلوب فرض التهدئة بالضغط أو التحايل على الفلسطينيين هي الطريقة المثلى للتعامل معهم.