لم يتردد بعض المسؤولين الإسرائيلييين، سواء من داخل الإئتلاف الحكومي أو من معارضيه، في "إدانة" أحداث قرية حوارة، وأعمال الحرق والتخريب التي مارستها ميليشيات المستوطنين على أهالي القرية، وممتلكاتهم، بما في ذلك، الذين صاروا قادة في المجتمع الصهيوني، أمثال بن غفير وسموتريتش، فقد عبروا كذلك عن رفضهم لما يُطلق عليه في القاموس الأمني الإسرائيلي بـ"أن يأخذ المستوطنون القانون لأيديهم" في ظل وجود قوات الأمن والجيش التي تكفل وتضمن تنظيم المجازر وعمليات القتل الممنهج في الضفة الغربية والقدس. لأنه وبالنسبة لشخص مثل سموتريتش، على الدولة وأجهزتها أن تمسح قرية وادعة مثل حوّارة عن الوجود،وليس مليشيات المستوطنين.
هاجم المستوطنون مساء الأحد الماضي قرية حوارة، وأحرقوا عشرات البيوت ومئات المركبات، وروّعوا أهالي القرية في ليلة مرعبة لم يسبق لأهالي حوّارة أن شهدوا مثلها من قبل. كما لم يتردد بعض الناشطين والمغردين الفلسطينيين على شبكات التواصل الاجتماعي في نعت أحداث ذلك المساء بـ"ليلة البلور"، في استحضار لأحداث ليلة البلور التي نفذتها العصابات النازية - الألمانية، ضد أحياء ومصالح يهود ألمانيا في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1938. وهذا التشبيه لأحداث ليلة حوارة بليلة البلور، يقع ضمن مسار مداومتنا نحن الفلسطينيون منذ النكبة، على اجتراح مفرداتنا المُعبرة عن الممارسات الصهيونية ضدنا، مثل القول بالـ"شتات" و"المحرقة"، وغيرها من التعابير المُستدخلة علينا من قاموس الصهيونية ذاته.
حوّارة التزمّن والتزامن
على أي حال، فإن أحداث حوّارة يمكن النظر إليها ضمن سياقين، الأول هو سياق داخلي متزمن -متلاحق زمنيا- للقتل والانتهاك المنظمين، اللذان يمارسهما الاحتلال سواء على مستوى قطاع الأمن والجيش، أو ميليشيات المستوطنين في مدن وقرى الضفة الغربية. والثاني، هو تزامن أحداث حوّارة في توقيتها مع قمة العقبة أو "قمة الطوارئ" كما سمّاها الإسرائيليون، والتي عُقدت صباح يوم الأحد الماضي في مدينة العقبة الأردنية برعاية أميركية مصرية وأردنية كذلك، وبمشاركة ممثلين عن كل من أجهزة أمن حكومة إسرائيل، والسلطة الفلسطينية.
سياق متزمّن
جاءت أحداث ليلة حوّارة، على إثر عملية فلسطينية نُفذت في ساعات ظُهر الأحد من يوم الأحداث نفسه في حوارة، وأسفرت عن مقتل مستوطنيْن في القرية، فيما جاءت عملية قتل مستوطنيّ حوارة على إثر مجزرة نابلس التي نفذتها قوات عصابات الاحتلال الإسرائيلي صباح يوم الثالث والعشرين في المدينة، راح ضحيتها تسعة شهداء، من بينهم طفل ومسنّان، وأكثر من مئة مصاب وجريح من أهالي مدينة نابلس. كما سبقت مجزرة نابلس، مجزرتان نفذتهما قوات الأمن والجيش الإسرائيليين خلال الأسابيع الأخيرة، منها في مدينة أريحا -مجزرة في مخيم عقبة جبر في صباح يوم الإثنين 6/2/2023 والتي خلّفت سبعة شهداء-، وقبلها مجزرة مخيم جنين، التي نفذتها قوات الاحتلال في صباح يوم الخميس 26 كانون الثاني/ يناير 2023، والتي أسفرت أيضا عن استشهاد تسعة شهداء من أهالي المخيّم.
ازدادت وتيرة الانتهاك الإسرائيلي لمدن وقرى الضفة الغربية، بما يتضمنه هذا الانتهاك من قتل وإجرام، وملاحقات واعتقالات، على مدار الشهور الأخيرة في مسعىً إسرائيلي أمني - عسكري يغرض إلى وأد كل مظاهر رفض ومناهضة الاحتلال وسياساته في الضفة الغربية منذ سنوات. ففي ظل حياة منزوعة من أي أفق سياسي ممكن، وتغول الاستيطان والضم، وفاشية اعتداءات قطعان المستوطنين، إضافة إلى سياسات التضييق والتهويد في القدس وتحويل السلطة الفلسطينية إلى منظومة وظيفية في خدمة أجندات الاحتلال؛ كل ذلك، بالتأكيد، لن يدفع إلا إلى خيار رد الفعل الشعبي منه والمسلح من أجل منع الاستفراد بالشعب الفلسطيني، خصوصا في ظل الراهن الإقليمي والدولي المترهلين، اللذين يشجعان إسرائيل على المضيّ قدما في ممارساتها بلا حسيب أو رقيب.
لا تؤمن الدولة العبرية أمنيا إلا بخلع شوكها بيديها، وهذا مثبت تاريخيا، وقد بيّنته العمليات الإجرامية التي نفذتها خصوصا في الأشهر الأخيرة في بعض مناطق الضفة الغربية، إذ يعي الإسرائيليون أن مظاهر التسلح المناهض للاحتلال في بعض المناطق مثل جنين ونابلس، باتت أكبر من أن تستطيع أجهزة أمن السلطة "ضبطها"، رغم استمرار التنسيق الأمني، مما يدفع قوات أمن الدولة العبرية وجيشها إلى التسلل بوسائل مختلفة داخل حواضن المقاومة الفلسطينية المناهضة من أجل تصفيتها كما حدث مؤخرا في نابلس وأريحا وجنين.
إن السؤال الأمني الكبير القادم من المستقبل بالنسبة لإسرائيل، هو الضفة الغربية والقدس، وليس غزة التي بات سؤالها الأمني متصلا بـ"قواعد لعبة" كيّفت إسرائيل نفسها إلى حدٍ ما معها. بينما لا قواعد ثابتة مع مظاهر المقاومة وتحديدا المسلحة منها في الضفة، والتي لم يعد لضابط إيقاعها -أجهزة أمن السلطة- القدرة على ضبطها، ما يعني بالنسبة للإسرائيليين، عطب منظومة التنسيق الأمني التي بنت عليها إسرائيل حساباتها الأمنية منذ سنوات مع أجهزة أمن السلطة، على تأديب الضفة وخنق الخيار المقاوم فيها، خصوصا مع تصاعد شعبية حالة "عرين الأسود"، واتساع حاضنتها الاجتماعية. وهذا ما دعا بدوره، إلى قمة أمنية طارئة في مدينة العقبة، الأحد الماضي.
سياق مُتزامن
لقد تزامنت عملية حوّارة التي أسفرت عن قتل مستوطنين، ثم انفلات المستوطنون اليهود على القرية وحرقها، مع انعقاد قمة العقبة في الأردن التي جمعت قيادة أمنية إسرائيلية بقياديين من السلطة الفلسطينية وبرعاية أميركية وعربية، لغرض أمني متعلق بأمن الدولة العبرية ليس إلا. بالتالي، فعلى الرغم من الرسالة الوطنية التي تتضمنها عملية حوّارة بوصفها فعلا يعبّر عن رفض هذه القمة وأغراضها. إلا أن العملية عززت كذلك من "شرعية" القمة وغرضها بالنسبة للقائمين عليها، لناحية وجوب فرض الأمن و"ترويض" المقاومة في الضفة الغربية.
وكذلك بالنسبة للسلطة الفلسطينية وأجهزتها، التي باتت تثبت محدودية دورها في ما يتعلق بمهمة التنسيق والضبط الأمنيين. إلا أن السلطة برئاستها وأجهزتها ترى بالأحداث الأخيرة فرصة لتعزيز قناعة الأطراف الأخرى بجدوى دعم السلطة وأجهزتها، مما تعتبره السلطة ورقة يمكن استغلالها لصالح مكانتها، ومبرر وجودها. وهذا ما تؤكده مخرجات لقاء قمة العقبة الأخير، التي أكدت على ضرورة إنشاء لجنة أمنية مشتركة من شأنها تمكين التنسيق الأمني ، ما سيترتب عليه بالتأكيد تقديم مساعدات مادية ولوجستية لأجهزة أمن السلطة من أجل الشروع بمهامها الأمنية. أما في ما يتعلق بالحديث عن تجميد البؤر الاستيطانية في الضفة، الذي أشارت له مخرجات قمة العقبة، فهو ليس إلا ذرًّا للرمال في العيون.
لم يعد يعني الملف الفلسطيني بالنسبة لإسرائيل غير ما يعنيه بوصفه ملفا أمنيا، عنوانه الضفة الغربية والقدس في المرحلة الحالية على الأقل. ويُجمع الإسرائيليون عليه رغم حالة الشرخ السياسي القائمة بين الحكومة والمعارضة فيها، فقد استغلت قوى معارضة حكومة نتنياهو - بن غفير سموتريتش، أحداث حوّارة وفلتان المستوطنين على القرية، من أجل تجييرها لصالحها وللمزاودة على الحكومة، باعتبار "أخذ المستوطنين القانون لأيديهم" فوضى ناجمة عن فوضوية الحكومة القائمة. غير أن استنكار المعارضة بقيادة يائير لبيد لسلوك المستوطنين في حوّارة، لا يعني استنكار الاستيطان وشرعيته، لأن الاستيطان بات محلّ إجماع داخل الخريطة السياسية الصهيونية، رغم خلاف قواها وأحزابها على هوية نظام الدولة القائم حاليا.
من "يتوسَّم" منصب وزير الأمن في إسرائيل اليوم، هو في موقعه لأنه مستوطن تدرّب ودرّب مستوطنين مثله على ضرورة "أخذ القانون باليد". كما أن المستوطنين، ليسوا مجرد قطعان على هامش الدولة العبرية كما يحلو لبعضنا نعتهم، بل هم ميليشيات منظمة غير رسمية مدعومة من قبل الدولة وأجهزتها. وخرائط الاستيطان في الضفة والقدس رسمها وفرضها المستوطنون أنفسهم منذ سبعينيات القرن الماضي، حتى صارت إسرائيل تشبه نفسها اليوم أكثر من أي وقت مضى، أي دولة استيطانية - استعمارية، لا دولة بعض مواطنيها مستوطنون فقط. عن "عرب ٤٨"