تقدم ردود الفعل الإسرائيلية على الاتفاق الذي يحاول طيّ صفحة صراع دامٍ بين طهران والرياض انتشر مسرحه على مساحة عواصم الإقليم اعترافاً بدور إسرائيلي كبير في هذا الصراع، وإلا لماذا يتبادل أقطاب الخلاف في تل أبيب الاتهامات ضد بعضهم بالفشل لو لم يكن لإسرائيل دور مباشر؟ فقد فشل المشروع الذي بدا منذ أحد عشر عاماً.
هناك بدأت الرواية حين بدأت أحداث الاضطراب واهتز الإقليم وتبدى للحظة الأولى أن إسرائيل ستكون في مأزق بفعل صحوة جماهير عربية، لكن إسرائيل التي كانت تفكر بشكل مختلف كانت تبحث عن كيفية تحويل الأمر إلى فرصة يمكن استغلالها وتحويلها لصالحها، ليظهر واحد من أخطر المشاريع الدامية في المنطقة في مؤتمر هرتسليا الحادي عشر. وكان البند الثالث في توصياته والتي مازالت منشورة على الإنترنت لكل من أراد البحث «يجب على إسرائيل إنشاء محور سني في المنطقة وتكون إسرائيل جزءاً من هذا المحور».
هكذا كان الأمر بكل بساطة. فإيران تدعم جزءاً من الأنظمة في المنطقة ودول الخليج دخلت بثقلها، وكانت سورية الجغرافيا الأكثر تحققاً لهذا الصراع، وإسرائيل تخوض حرباً دائمة ضد ايران، ومن هنا كان يمكن النفاذ بأن ترمي إسرائيل بثقلها لتسعير الصراع من ثقب الاختلاف المذهبي والذي أفاق فجأة من غفوته على ألسنة شيوخ وسياسيين وكتاب، لدرجة أن بعضهم أفتى بأن ايران أكثر خطراً من إسرائيل، وكان مثقفو النفط يسنون أقلامهم على وقع الفتاوى غير مدركين منبع المشروع.
لم يتحقق الحلف السني الذي تم رسمه في هرتسليا في عصر الرئيس الأميركي باراك أوباما لكنه كاد يتحقق في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب حين دفع بدول عربية ليست مركزية للتطبيع مع إسرائيل، وكان سيبلغ ذروته بالحديث المكثف من قبل نتنياهو عن جر السعودية كدولة مركزية ومؤثرة لهذا المربع، ومازال نتنياهو يتحدث بالأمر رغم الوضوح الشديد للمواقف السعودية تجاه الحقوق الفلسطينية. لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة رغم العداء الكبير بين طهران والرياض، وبما تخلله من معارك لم تتواضع الدولتان في استخدامها في أكثر من مكان.
لكن التاريخ لا يتوقف، فقد جرت مياه كثيرة في أنهار الإقليم التي تلونت بالدم حيناً وبالعمل الاستخباري أحياناً وبممكنات الصراع وبممكنات التقارب أيضاً، وأبرزها سعي السعودية لضبط «أوبك» أكثر بعد الحرب الروسية الأوكرانية والتي تشترك فيها الرياض وطهران بثقل كبير. فبما وفرته الحرب الروسية الأوكرانية تمكنت السعودية بقيادتها الجديدة من التقاط اللحظة التاريخية لإدارة سياسة أكثر ذكاء وأكثر ثقة بنفسها، فشهدت تحولات هائلة في علاقاتها الخارجية والمغامرة بالذهاب شرقاً نحو الصين وتعزيز علاقاتها العسكرية والتجارية، في الوقت الذي تعمل الولايات المتحدة جاهدةً لمحاصرة بكين.
كان إشهار التغيير في السياسة السعودية في تموز الماضي أثناء زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للرياض، بعد أن رفض ولي عهد السعودية الاستجابة لمطالب مبعوثيه الكبار لزيادة إنتاج النفط بهدف تخفيض سعره لمنع روسيا من الاستفادة في جهدها العسكري، ثم القرار السعودي بتخفيض الإنتاج في ضربة للجهود الأميركية والتي ناقشت في أروقتها ثلاثة سيناريوهات لمعاقبة السعودية لتكتشف أنها لن تتمكن من ذلك.
في مقابلة مطولة للرئيس الأميركي باراك أوباما نُشرت في مجلة أتلانتك قبيل مغادرته البيت الأبيض كان يتحدث عن تحول السياسة الأميركية نحو الشرق ودوله التي تظهر فيها فرص واعدة وشعوب مستقرة ورغبة بمغادرة المنطقة العربية المضطربة التي كما قال «لا تتوقف توربيناتها عن إنتاج العنف»، تلك السياسة كانت تبدو للحظة في صالح إسرائيل ولكنها بدت على المدى الأبعد أنها كانت على حسابها، صحيح أن هذا وفّر فرصة لإسرائيل لتقدم نفسها للخليج كشركة حماية ولكنها بالانسحاب الأميركي من الشرق تكتشف أنها نفسها بحاجة لحماية أميركية من إيران. هذا تقرأه السعودية وتسمعه يومياً في إسرائيل.
ومع تراجع الحضور الأميركي ومع إنتاج إسرائيل لحكومة فاقعة التطرف الديني في اللحظة التي باتت السعودية تحارب هذا التطرف نحو الانفتاح، ومع ما وفرته الحرب الروسية الأوكرانية من حضور وممكنات للسعودية، ومع الزحف الصيني الهادئ الذي ذهب أبعد من الاقتصاد نحو السياسة، ومع قيادة جديدة في الرياض أكثر رشاقةً وأكثر قدرة على تحويل الإمكانيات إلى سياسات، ومع قدر الجغرافيا كانت السعودية تتحول من دولة جزء من سياسة ومحاور إلى دولة منتجة سياسة. وهكذا بدأت المفاوضات في بغداد بين الرياض وطهران رأسَي الحربة في الصراع المذهبي الذي يُشحن من خارج العاصمتين وشهدت جولات في عمان.
في تلك اللحظة وتلك المناخات جاء الصديق المشترك للخصمين، الرئيس الصيني شي جنغ بينغ لينجح كوسيط بحيادية المصالح في معاكسة السياسة الأميركية غير المحايدة في أي قضية والمساس بها وبالتالي بإسرائيل التي ظهرت شديدة الانفعال في ردود فعلها. ومن غرائب الأشياء أن كل العالم رحب بالسلام بين الدولتين إلا إسرائيل، فهي تدعو للصراعات والدم والحروب وتلك وحدها رواية.
الاتفاق شديد الأهمية إن لم يحدث ما لا يتمناه الجانبان خلال الشهرين القادمين ويجهض الاتفاق وإن كان هذا سيناريو ضعيفاً نظراً للحضور الصيني، وسيحدث الاتفاق تحولاً هائلاً في شكل وعلاقات الإقليم ونظمه ودوله وحكوماته وشعوبه واستقراره، مغامرات ولي العهد السعودي لا تتوقف، يتحرك الرجل بثقة معاكساً الرياح الأميركية، ما سيضعه في عين العاصفة، فهو يمس بالسياسات الأميركية، وبعد أن دُفن في بكين ما وُلد في هرتسليا.