طالَ الإضراب

تنزيل (21).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة



مضى على إضراب المعلمين أكثر من شهر، ولم يتبقَ من العام الدراسي إلا القليل، وإذا لم تُحل هذه الأزمة سريعاً، فسيخسر طلبتنا عاماً دراسياً كاملاً، وحتى لو بذل المعلمون ومعهم وزارة التربية مجهوداً خرافياً لإنقاذ ما تبقى من العام الدراسي، فلن تكون النتائج مرضية، وإذا أضفنا إضراب العام الحالي، مع إضرابات السنين السابقة، وما حصل في سنة الـ»كورونا» وتجربة التعليم عن بُعد، وأثر ذلك كله على مستوى الطلبة ونوعية التعليم الذي تلقوه، فسنكون أمام نتائج محزنة ومخيبة.  
وإزاء هذه المعضلة أودّ تسجيل النقاط التالية:
تتحمل الحكومة مسؤولية تاريخية في وصول الأزمة عند هذا المنعطف الخطير.. فعاجلاً أم آجلاً لا بد أن ينال المعلمون حقوقهم، ولا بد للإضراب أن يتوقف.. بمعنى أن الطرفين سيتوصلان في النهاية إلى حل وسط.. وطالما أن ذلك ممكن، فلماذا لم تعاجل الحكومة منذ اليوم الأول للإضراب للتوصل إلى هذه النتيجة؟ هل كان ضرورياً الانتظار كل هذه المدة؟ هل كانت الحكومة تراهن على إفشال الإضراب وإنهائه على طريقتها؟
جميعنا يعلم محدودية إمكانيات السلطة، وجميعنا يعرف ويشعر بحجم الضغوطات الممارسة عليها، من قبل أميركا، وإسرائيل، والاتحاد الأوروبي، المتزامنة مع وقف الدعم العربي، والعقوبات المالية على السلطة بسبب موقفها الوطني والمشرف من مسألة مخصصات عائلات الشهداء والأسرى، الأمر الذي وضع السلطة في أزمة مالية خانقة، فلم يعد بمقدورها زيادة رواتب الموظفين (وبالذات المعلمين) بالقدر الذي يوفر لهم حياة كريمة.. لكن هذا الأمر على بساطته ليس واضحاً بالقدر الكافي لدى الجمهور، بل إن هذا الجمهور فقد ثقته بالسلطة لأسباب عديدة، منها تجارب سابقة مخيّبة (بصرف النظر عن مدى دقتها وحجم التضليل الإعلامي حولها، خاصة من قبل جهات تعادي السلطة)، وأيضاً بسبب ضعف الأداء الإعلامي للسلطة، وغياب الشفافية، وبسبب أولوياتها في إدارة وتصريف موازنتها العامة.
وكعادة كل الحكومات في العالم، لحكومتنا أولوياتها، وللأسف ليس من بين أولوياتها مسألة التعليم.
في هذه الأزمة، وفي كل الأزمات السابقة، تفكر الحكومة وتتصرف وتبحث عن الحلول بعقلية أمنية بحتة، والحلول الأمنية ليست فقط في قمع رجال الأمن للتظاهرات، أو اعتقال النشطاء، أو اتخاذ إجراءات عقابية ضدهم كالإحالة للتقاعد، والنقل التعسفي، والخصم من الراتب وغير ذلك. من بين الحلول الأمنية شقّ وحدة صف المعلمين، وتبني جسم نقابي على مقاس السلطة، لا يمثل بشكل حقيقي مطالب ومصالح الفئة التي من المفترض أنه يمثلها، والمقصود بذلك اتحاد المعلمين، والذي ثبت أنه لا يمثل عموم المعلمين، وكلمته غير مسموعة. في حين أن حراك المعلمين، وهو جسم غامض وغير محدد الملامح، وغير معروف بالأسماء الصريحة، ومع ذلك كلمته مسموعة ومطاعة، ببساطة لأنه يمثل مصالح ومطالب المعلمين.
ومن بين الحلول «الأمنية» أيضاً شيطنة إضراب المعلمين، واتهام الحراك بأنه يُدار من قبل جهات خارجية، أو من قبل «حماس»، وأن لديه أجندات سياسية. ربما أن «حماس» فعلاً تريد اقتناص الفرصة، وتسعى لإضعاف السلطة وإحراجها، وفي ذهنها مخطط سياسي أيديولوجي مرتبط بالخارج، جرى تنفيذ جزء منه في غزة عبر انقلاب 2007، ولكن هذا لا يعني أبداً أن المعلمين وحراكهم مرتبطون بـ»حماس»، كل ما في الأمر تقاطع مصالح الطرفين عند نقطة محددة. وبالتالي الأولى أن تسحب السلطة البساط من تحت أقدام الجميع، وتزيل الذرائع من خلال إسراعها بإيجاد حل للأزمة، بدلاً من توجيه الاتهامات.
إذا كانت الحكومة تصر على التعامل مع اتحاد المعلمين بصفته التاريخية، ولكونه أحد أذرع منظمة التحرير، فلا بأس في ذلك، بل هذا هو المطلوب، والأفضل من التعامل مع جسم غامض.. ولكن شريطة ألا يكون الاتحاد الجسم النقابي المطيع والمريح، وبالتالي حتى يتمتع بشرعية تمثيل المعلمين لا بد أن يتم اختيار قياداته وهيئاته بطريقة ديمقراطية حقيقية، وعبر الانتخاب الحر والمباشر. فمن غير المعقول ألا تكون للمعلمين نقابة أو اتحاد يمثلهم، وهم الشريحة الأكبر والأهم في المجتمع! وهذا مدخل مهم للحل.
جميع الأهالي مستاؤون ويشعرون بالحزن على أبنائهم، ويخشون على مستقبلهم، وهم غاضبون من استمرار الإضراب كل هذه المدة.. فإذا كانت الحكومة تراهن على أن الأهالي سيضغطون على المعلمين، وسيحمّلونهم المسؤولية، وسيدفعون بهم لإنهاء الإضراب، فمثل هذا الرهان لا يختلف بشيء عن بقية الحلول الأمنية الفاشلة.. إن لم يكن أسوأ.. وهذه مشكلة كبيرة، طالما أن الحكومة تفكر بمنطق أن المعلمين خصوم، أو جهة خارجية.. بدلاً من التعامل معهم بصفتهم مواطنين، ولهم حقوق، وأن المعلمين والحكومة من المفترض أنهم في خندق واحد، بمعاناة واحدة، وبمصير مشترك.
آن الأوان لنغيّر عقليتنا المتخلفة، وندرك أن المواطن إذا عبّر عن رأيه، والنقابة حين تصعّد نضالها لتحصيل حقوق ومطالب، والحزب السياسي حين يعارض، لا يعني ذلك أنهم أعداء الوطن، وأجندات خارجية، وبقية الأسطوانة المشروخة.. وصار ضرورياً للحكومة أن تعيد بناء جسور الثقة بينها وبين الشعب، وهذا يتطلب منها خطوات كثيرة.
لا شك أن الحكومة جادة ومعنية بإنهاء الإضراب، وعودة التلاميذ لمدارسهم، ولكن المعلمين أيضاً مستاؤون وحزينون على الوضع الذي وصلنا إليه، فهم أيضاً لديهم أبناء على مقاعد الدراسة ويخافون على مستقبلهم.. ولا أشكك هنا بنوايا الحكومة الطيبة تجاه المعلمين، فالخطاب الإعلامي للحكومة ولوزارة التربية يعلي دوماً من شأن المعلمين.. ولكن إذا تمكنت الحكومة من إنهاء الإضراب على طريقتها، ودون رضا المعلمين، وقناعتهم أنهم حصلوا على الحد الأدنى من حقوقهم، سنكون أمام كارثة حقيقية.. فهذه الطريقة تؤدي إلى كسر إرادة المعلم، وتحطيم معنوياته، وهدر كرامته (حتى لو كان ذلك عن غير قصد).
والحل الذي لجأت إليه الوزارة من خلال المحكمة، هو حل مؤقت، وترحيل للأزمة، وغير مُرضٍ، فإذا امتثل المعلمون للقضاء (ليكونوا قدوة لطلبتهم في احترام العدالة) فإنهم حتماً سيعاودون الكرة في السنوات القادمة، وسنكون أمام إضرابات جديدة، وسنظل ندور في حلقة مفرغة، ونهدر الطاقات ونضيع على الأجيال فرص التعليم.
المعلم المأزوم، والمحطم، والذي يتقاضى راتباً لا يكفيه عشرة أيام لا يمكن له أن يؤدي رسالته كما ينبغي.. وليس هناك ما هو أخطر على طلبتنا وأجيالنا من معلم مأزوم ومحطم.
المعلم روح الوطن، وكرامته من كرامة الوطن.. وهو ليس مجرد موظف آلي، هو صاحب رسالة سامية.