بالتزامن مع الأذى والألم اللذين يمكن أن يلحقهما بالفلسطينيين المستوطنون الإسرائيليون، وغيرهم من المتطرّفين الذين زاد تطرّفهم جرّاء وجود حكومة فاشية في قيادة دولة الاحتلال، يعد وجود الحكومة هذه فرصة لإبراز قضية الشعب الفلسطيني، وإظهار أن نضاله لم يعد سوى دفاع عن الوجود في وجه سياسة الاستيطان والتطهير العرقي والمحو الإسرائيلية. ولكن عقباتٍ كثيرة تقف في وجه تحقيق هذا الأمر، ليس بسبب التطرّف الإسرائيلي فحسب، بل بسبب العجز الفلسطيني القائم، غير أن فهماً جديداً وتكتيكاً ناجحاً للقوى الفلسطينية الصاعدة من خارج أطر الفصائل يمكنه تجيير هذا التطرّف لصالحه، عبر الكشف عن الوجه الهمجي الحقيقي "البغيض والمقزّز" خلف قناع ما يسمّونها "الديمقراطية الإسرائيلية".
بعد المجزرة التي اقترفها المستوطنون الإسرائيليون في بلدة حوّارة الفلسطينية، في ليلة الـ26 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، ردّاً على مقتل مستوطنَيْن فيها، كان التعليق الوحيد من رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، أنه ليس على المستوطنين القيام بالانتقام بأيديهم، ملمِّحاً إلى أن الجيش الإسرائيلي هو من سينتقم لهم. ولأنه لم يكتفِ من مظاهر التدمير في حوّارة وحرق المنازل والسيارات وقتل فلسطيني وجرح آخرين، ولم تخفت شهوة القتل لديه، أرسل نتنياهو جنوده، عصر يوم 7 مارس/ آذار الجاري، إلى نابلس ومخيم جنين لاعتقال منفّذ عملية حوّارة، ولاستكمال ما فعله القتلة في حوّارة تلك الليلة، منفّذاً وعده بالانتقام، فأوقعوا ستة ضحايا إضافيين، لينضمّوا إلى ضحايا المجازر التي ارتكبها الإسرائيليون في نابلس وجنين وغيرهما في الشهرين الأخيرين.
لا تُستغرَب هذه الممارسات عن المستوطنين، ولا عن أكثر حكومة يمينية عرفتها دولة الاحتلال في تاريخها القصير، والتي شكّلها نتنياهو من أقطاب الحركات الدينية العنصرية المتطرّفة، من أجل زيادة التجييش والعداء للعرب، وتمرير كل المشاريع الاستيطانية ومصادرة الأراضي وهدم منازل الفلسطينيين، والحصول على الموافقات لشن الحرب أو الاقتحامات الدموية للأحياء العربية من دون أي اعتراض داخلي. وكانت النتيجة عدة مجازر في أقل من شهرين، راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى، علاوة على هدم المنازل الفلسطينية. أما حين قرّر أحد الفلسطينيين الثأر لشهداء نابلس وغيرهم قرب بلدة حوّارة، فهاجمت قطعان المستوطنين البلدة، وأحرقت المنازل والسيارات، وقتلت وجرحت ناسا آمنين، ثم خرج واحدٌ من أشدّ وزراء نتنياهو تطرّفاً، وهو وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، ليدعو إلى "محو حوّارة من الوجود"، وليؤكّد على الوجه الحقيقي للحكومة الإسرائيلية، حكومة الفصل العنصري الديني الفاشية.
لقد أزعج هجوم المستوطنين على حوّارة دول الغرب الأوروبي والأميركي، وشبّهه كثيرون بـ"ليلة البلور" (أو الكريستال) التي حدثت أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، حين هاجم النازيون الألمان منازل اليهود وكسروا زجاج نوافذها. ولم تكد نيران حوّارة تخمَد، حتى خرج سموتريتش بدعوته إلى محوها، مثيراً الاشمئزاز لدى هؤلاء المسؤولين، ومُجبراً الناطق باسم الخارجية الأميركية على التصريح غير المسبوق بأن تلك الدعوة "بغيضة وغير مسؤولة ومثيرة للاشمئزاز"، ثم ورد أن المسؤولين الأميركيين سيقاطعون سموتريتش لدى زيارته الولايات المتحدة. كما أُجبِر الأوروبيون على الخروج ببيانٍ مشترك، فرنسي ألماني إيطالي بولندي إسباني بريطاني، دانوا فيه "عنف المستوطنين العشوائي ضد الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم".
لماذا يُجبَر الغرب على إطلاق هذه الإدانات غير المسبوقة؟ ممارسات الحكومة الإسرائيلية العدوانية واستهدافها كل فئات الشعب الفلسطيني على أرضه المحتلة، وتدمير قراه ومنازل أبنائه وممتلكاتهم أمام عدسات مصوري وكالات الأنباء العالمية، في ما يرقى لأن يكون جريمة حرب وسياسة تطهير عرقي فاشي تحرج مسؤولي الغرب وتجعلهم غير قادرين على التغاضي عنها، انطلاقاً من الموقف الأخلاقي الذي يُجبرون على الظهور به أمام جمهور ناخبيهم. كما لا يمكنهم السكوت عنها في وقتٍ قال فيه رئيس "الشاباك" (المخابرات الداخلية) السابق، يوفال ديسكين، إنها "إرهاب يهودي"، وشبّهها نشطاء سلام إسرائيليون بالـ"بوغروم" اليهودي ضد الفلسطينيين، أي الهجمات الجماعية التي تجرى بموافقة السلطات أو تغاضيها ضد أقلية قومية أو عرقية أو دينية وإلحاق التدمير واقتراف المذابح بحقها، وقد جرى مرّة ضد بعض اليهود في روسيا القيصرية.
في غياب المشروع الوطني الفلسطيني الجامع، تبرُز الحاجة إلى البحث عن سبلٍ جديدة، أو تفعيل سبل قائمة، سلمية أو حتى عسكرية يجرى إبرازها على أنها رد فعلٍ على وحشية المحتلين. وإذ ترافقت الجرائم الإسرائيلية مع تظاهرات المعارضين الإسرائيليين جهود نتنياهو في الحدّ من صلاحيات القضاء، ما يعتبره المحتجّون هجوماً على الديمقراطية الداخلية، ومزعزعاً للاستقرار، ودافعاً إلى إيجاد بيئةٍ نابذةٍ لرؤوس الأموال لاحتمال تغيير تصنيف الكيان الائتماني، فإن هذا الواقع سيؤكّد دعوات حركة المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات (BDS) التي درجت على إطلاقها سنواتٍ عديدة، والتي تدعو إلى فهم حقيقة هذا الكيان العنصري ووجوب مقاطعته. وهي فرصةٌ لهذه الحركة لإعادة طرح أهدافها، خصوصاً بعد استهدافها في أميركا، وبعد أن صنّفتها حكومة الاحتلال أكبر تهديدٍ يواجه دولة الاحتلال بسبب فضحها التعامل الإسرائيلي الوحشي مع أبناء الشعب الفلسطيني. ومع ظهور الوحشية الإسرائيلية جلية أمام أعين الجميع، سيكون سهلاً على الحركة إسماع صوتها لجميع المسؤولين وأصحاب الشركات، وإفهامهم أن استمرار دعمهم الكيان وبقاء استثماراتهم فيه سيزيدان من إجرام الإسرائيليين، وسيحملانهم المسؤولية الأخلاقية، لأن هذا سيكون بمثابة تغاضٍ عن جرائم الإسرائيليين البينة.
بات واضحاً أن المجتمع الإسرائيلي في اضطرابٍ كبير، سيستمر، وقد يتفاعل أكثر، لأن استمرار وجود نتنياهو في الحكومة أصبح بالنسبة له قضية مصير، ولا يمكن أن يتحدّد مستقبله سوى بتنفيذه التغييرات في القضاء التي يحتاجها لمنع محاكمته. كما أن وجوده في الحكومة مشروطٌ بوجود غلاة اليمين الفاشي إلى جانبه في وزاراتها. لذلك من الممكن أن نشهد تصعيداً أمنياً كبيراً، سيترافق مع تصعيد إعلامي وكلامي مشابهٍ لكلام سموتريتش، فاضحاً طبيعة هذا الكيان، وموفّراً فرصة للفلسطينيين وأنصارهم في العالم لتكريس صورته الحقيقة أمام قادة العالم وشعوبه، لإبراز الوجه الوحشي للمحتلين وظلمهم الواقع على الفلسطينيين. وهي فرصةٌ إن كانت الإفادة منها قليلة هذه الأوقات، فلن تستمر كذلك مع المقبل من الأيام.