ليست حادثة عابرة تلك التي حصلت، الأسبوع الماضي، حينما اعترضت طائرة حربية روسية من طراز «سوخوي 27»، مُسيّرة أميركية كانت تحلق فوق البحر الأسود وسقطت في المياه الدولية بعد أن عطّل الأميركان كل البرامج الموجودة فيها.
سبق أن حصلت احتكاكات جوية بين الروس والأميركان والأوروبيين في الأجواء الدولية والمجالات الخاصة بها، لكن تعتبر هذه الحادثة الأخطر على الإطلاق في وقت دولي حسّاس، تواصل فيه موسكو عمليتها العسكرية ضد أوكرانيا.
ماذا حصل بالضبط فوق البحر الأسود، وما الذي أدى إلى سقوط المُسيّرة الأميركية «إم كيو 9»، وهل يجري البحث عن حطامها الذي سقط في المياه الدولية على عمق حوالي 1000 متر، وهل يهم واشنطن كثيراً البحث عن المسيرة قبل وصول الروس إليها؟
في البداية، من المهم الإشارة إلى أن هذه المسيرة المتطورة جداً التي يصل سعرها إلى حوالي 30 مليون دولار، تمتلك نظام رادار متقدما وهي متخصصة بالمهام التجسسية والاستطلاعية لجمع المعلومات الاستخباراتية والعسكرية.
كذلك تستخدم في استهداف منشآت عسكرية ومواقع حسّاسة واغتيال شخصيات بارزة، ويمكنها حمل صواريخ «جو ــ أرض» موجهة بالليزر ودقيقة التصويب، وجرى استخدام هذا النوع من المسيرات خلال السنوات الماضية في العراق واليمن وليبيا وأفغانستان وسورية.
المسيرة الأميركية كانت تُحلّق على مسافة 75 ميلا بحريا من جزيرة القرم، والبيانات العسكرية الأميركية أكدت أنها لم تدخل الأجواء الروسية بل كانت تطير فوق المياه الدولية حينما اعترضتها طائرة حربية روسية ورمت عليها الوقود للتشويش على أنظمتها الاستطلاعية.
الروس قالوا، إنهم لم يعترضوا المسيرة الأميركية التي قامت بانعطافة أو مناورة حادة أدت إلى سقوطها فوق البحر الأسود، بينما ذكرت وزارة الدفاع الأميركية أن الطائرتين الحربيتين الروسيتين حلقتا بالقرب من المسيرة وإحداهما صدمت مروحة الأخيرة ما اضطر القوات الأميركية إلى إسقاطها.
المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» الجنرال باتريك رايدر لم يفصح عن طبيعة المهام التي كانت تقوم بها المسيرة قبل ووقت سقوطها، ولم يحدد التقنية التي تمتلكها والأسلحة التي تحملها، واكتفى بالقول، إنها «منصة مراقبة واستطلاع واضطررنا إلى إسقاطها».
بالنسبة للرواية الأميركية فإن المسيرة المذكورة كانت تقوم بطلعات روتينية استطلاعية فوق المياه الدولية ولم تنتهك الأجواء الروسية أو تقترب من حدود شبه جزيرة القرم، بينما صنّفت موسكو هذا العمل بالعدائي الذي استهدف جمع معلومات استخباراتية عن قواتها وإمكاناتها العسكرية فوق البحر الأسود والقرم.
وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قال، إن واشنطن تجاهلت أن روسيا أنشأت حدوداً للمجال الجوي فوق البحر الأسود خصوصاً بعد الحرب التي تشنها على أوكرانيا، ومختلف التحليلات العسكرية الروسية رجّحت أن المسيرة الأميركية كانت تقوم بمهام تجسسية لصالح أوكرانيا.
هذه الحادثة الخطيرة قد تكون محاولة أميركية لجس نبض روسيا في مسألة التعامل مع مثل هذه المواقف، أو ربما مقدمة لفتح المجال أمام إطلاق المزيد من المُسيّرات الأميركية فوق الأجواء الدولية للبحر الأسود بغية مراقبة وفهم التحركات العسكرية الروسية هناك.
وفي كل الأحوال، لن يؤدي ما حصل أعلاه إلى اشتباك جوي بين الولايات المتحدة وروسيا، لأن كلا الطرفين غير معني بمواجهة عسكرية مباشرة، لكن من المؤكد أن واشنطن ستستثمر ما جرى لوضع مجهر كبير على الوجود العسكري الروسي والأسطول البحري في البحر الأسود ومن خلفه بحر آزوف، خصوصاً أنه ليس لديها - واشنطن - تواجد عسكري مباشر هناك.
السلوك الأميركي يندرج في إطار السعي الحثيث لعدم تغيير شكل النظام الدولي والرغبة القوية في بقاء واشنطن قائدة للعالم، كما ينسجم مع رغبة أميركية في نقل الصراع بين موسكو وكييف إلى جبهة شبه جزيرة القرم، وتقديم معلومات كافية لأوكرانيا عن الإمكانيات والوجود العسكري الروسي هناك ربما بهدف التحضير لعملية هجومية خاطفة تحدث تحولاً في مستوى الحرب.
أما بخصوص حطام المُسيّرة فمن غير المستبعد أن تتكثف عمليات البحث عنها من قبل الجانبين الروسي والأميركي. بالنسبة للأول مهتم بالحصول على الحطام لدراسة التقنية الأميركية في هذا النوع من المسيرات، والاستفادة منه روسياً. أما واشنطن التي قالت إنها دمرت كل البرامج في الطائرة، فهي معنية أيضاً بانتشالها من قاع البحر قبل موسكو بمساعدة أصدقائها من الحلفاء مثل رومانيا وبلغاريا وتركيا.
مما سبق ذكره، يتضح أن واشنطن لن تتوقف عن جمع المعلومات الاستخباراتية عن روسيا في البحر الأسود والبلطيق وفي كل مكان، وقد تكون هذه الحادثة بمثابة رسالة لموسكو أن عليها السماح للمسيرات الأميركية بالتحليق في الفضاء الدولي طالما لا تنتهك الأجواء الروسية، لكن في كل الأحوال هذه الطلعات الجوية ليست بريئة وروسيا ستبقى تراقب أي تحرك أميركي أو أوروبي حتى فوق الأجواء الدولية.