حول دوافع إيران الحقيقية

عبد الغني سلامة
حجم الخط

خلافا لما يروّج كثيرون؛ فإن إيران تنطلق في سياساتها الخارجية من اعتبارات سياسية مصلحية، وما الموضوع «الشيعي» إلا غطاء ديني  تتدثر به لإخفاء دوافعها الدنيوية، أما التحريض الطائفي فهو مجرد وسيلة لتحقيق أهدافها؛ ولو سلطنا الضوء على المناطق التي تتغلغل فيها إيران لوجدنا الكثير من البراهين على ذلك؛ مثلاً، في السنة الأولى من عهد «الخميني» صعّدت إيران خلافاتها مع العراق، في سياق معركة «كسر عظم» للسيطرة على الخليج، فاستدرجته إلى الحرب، وأصرت على إدامتها، إلى أن رضخت لقرار مجلس الأمن (597)، لكن دون أن تتوقف سياستها العدائية تجاه العراق، فاستغلت تداعيات حرب الخليج الأولى (1991)، ودعمت تمردا شعبيا على النظام، كان في بدايته انتفاضة شعبية ضد الاستبداد والظلم، ثم تحول إلى سعار طائفي. فالمسألة بالنسبة إليها استعادة الهيمنة على الجارة التي ناصبتها العداء طويلا.

ومرة ثانية، استغلت سقوط النظام على يد القوات الأميركية الغازية (2003)، فدعمت كل الزعامات الطائفية والمليشيات المسلحة لنشر الفوضى، ولم يقتصر لعبها بالقوى الشيعية وحسب؛ فالزرقاوي مثلا، كان قد تعالَجَ سرّاً لأكثر من عام في مستشفيات إيران، قبل أن تطلقه ليعيث في العراق فسادا وتخريبا، لأن الفوضى الأمنية والشحن الطائفي يعززان من فرص سيطرتها على العراق، ويمكّنها من تنصيب حكومات موالية (الجعفري والمالكي)، وطبعا بالتنسيق مع «الشيطان الأكبر».

بعد سقوط العراق، أخذت تركيا وإيران تتنافسان على لعب دور شرطي المنطقة والوريث غير المنازع في السيطرة عليها، فكلتاهما تمتلكان من المقومات الموضوعية ما يسمح لها بذلك.

إيران بموقعها، وتعداد سكانها، وامتلاكها تكنولوجيا الأقمار الإصطناعية، والمفاعلات النووية، ولكونها من بين أهم الدول المنتجة للبترول والغاز تطمح لتعزيز مكانتها الإقليمية، وقد أدركت نقطة ضعف أميركا المتمثلة بعجزها عن فتح جبهة ثانية معها، بعد أن تورطت في المستنقع العراقي، وهي برأيها فرصة تاريخية ينبغي استغلالها، ليس لإسقاط السياسة الأميركية في الشرق الأوسط؛ بل لتقاسم النفوذ معها.

في لبنان، دعمت «حزب الله» وورطته في حرب مع إسرائيل (2006)، ثم دعمت الانقسام الفلسطيني وانفصال غزة (2007)، وأخذت تتدخل في سورية، ثم في اليمن، والسعودية، محاولةً من خلال ذلك كله الإمساك بمزيد من أوراق الضغط، لتقوية موقفها التفاوضي، عبر إقامة ما تسمّيه «فسطاط المقاومة» الممتد من أصفهان إلى صور، مرورا بغزة، وصولا إلى صنعاء لبناء حلف موال مركزه طهران، يكرسها كقوة إقليمية ولاعب لا يمكن تجاهله ودولة نووية يُحسب لها ألف حساب.

في اليمن، دعمت الحوثيين انطلاقا من نظرتها للبلد على أنها مجرد موقع إستراتيجي تنبع أهميته لكونه مطلا على باب المندب، وعلى حدود النفط، وبالتالي فهي عقدة مواصلات على طرق التجارة العالمية، بل ويمتد تأثيرها إلى الخليج العربي ومضيق هرمز؛ حيث يمر أكثر من 60% من صادرات نفط المنطقة إلى العالم، وهي أيضا موطئ قدم لإيران في جنوب الجزيرة العربية، تستخدمه في سياق صراعها المعلن مع السعودية. في فلسطين دعمت إيران «حماس» في صراعها مع السلطة، كما دعمت «الجهاد الإسلامي»، وهي حركات سنّية، لكنها تخدم  رؤيتها الساعية لوضع إسرائيل تحت التهديد؛ من الجنوب غزة، ومن الشمال حزب الله.

ومن غير المؤكد أن هذا التهديد يأتي ضمن إستراتيجية لتحرير فلسطين، أو حتى محاربة إسرائيل جديا، لكنها ورقة ضغط في غاية الأهمية. وقد دعمت «حزب الله» أيضا لضمان استمرار دوره السياسي والأمني في لبنان، وعلى المدى البعيد لحماية خط الغاز في طريقه إلى أوروبا مستقبلاً، وهو الدور الذي ستلعبه سورية بشكل أكبر وأعنف. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن مستقبل الطاقة في العالم سيحتل فيه الغاز الدور الرئيسي، وأن إيران تمتلك ثاني أكبر احتياطي من الغاز (بعد روسيا تليها قَطر)، وأن الصراع الدولي في المنطقة محوره الغاز والأنابيب التي ستنقله لأوروبا، سنفهم بالتالي دوافع إيران للتدخل في سوريا رغم أكلافها المادية والسياسية الباهظة.

ما يعني أن سورية بالنسبة لإيران تمثل مدخلها للعالم العربي (كما هو الحال بالنسبة لروسيا)، ومجالا حيويا لحرب الطاقة، وما يوسع نطاق هذه الحرب ويربط أجزاءها معاً، أن كميات ضخمة من الغاز تم اكتشافها على سواحل المتوسط قبالة لبنان وحتى غزة. وقد وصلت القضية ذروتها حين كشف الأسد في 2009 عن سياسته لربط البحار الأربعة (المتوسط، قزوين، الأسود، الخليج العربي، في إطار تطلعات النظام لجعل البلد جسرا اقتصاديا، فبموجب هذه السياسة خطط النظام لعدة مشروعات:

إعادة بناء خط نفط كركوك – بانياس، تصدير الغاز الأذري إلي سورية عبر تركيا، ربط خط الغاز العربي بتركيا عبر أنابيب تنطلق من الجزيرة العربية فالأردن فسورية لربط هذه الدول بأوروبا عبر تركيا. ومع أن تركيا كانت حجز الزاوية في مشروع الأسد، إلا أن تركيا رفضت هذه الإمتيازات التي كانت ستجنيها، ما يضع علامة استفهام كبيرة حول استقلالية صناع القرار الأتراك. في الوقت نفسه، سعت قَطَر لمد أنبوب الغاز ليمر من الأردن وسورية وصولا للموانئ التركية، قبل أن يصدّر إلى أوروبا.

إلا أن إيران خططت لأنبوب آخر يمر من العراق، وصولا للموانئ السورية، ومنها إلى بقية العالم، دون المرور بتركيا. لذلك، فأن إحدى أهداف تركيا من دعم المعارضة السورية وإسقاط الأسد هو القضاء علي مشروع خط الغاز الإيراني، لإجبار طهران على القبول بالأمر الواقع، وتصدير غازها عبر الخط الذي تقترحه، ليتجه من سورية إلى تركيا، ما يعني إخضاع إيران لسلطة تركيا، وحرمان سورية أن تكون منافساً محتملاً لتركيا في نقل الغاز إلي المستهلكين الأوروبيين مستقبلاً. ولا يعني هذا أن سبب الأزمة السورية هو فقط خطوط الغاز، فالأزمة متعددة الأبعاد الأمنية والسياسية والإستراتيجية على المستويات الإقليمية والدولية. بالمختصر، تتحالف إيران مع أي طرف (سنّي، شيعي، علوي ...)، بما في ذلك أمريكا، ولا تتورع عن استخدام أي أسلوب لا إنساني مثل نشر الفوضى الأمنية، وبث النعرات الطائفية، والإدعاء أنها حامية للأقليات الشيعية طالما أن ذلك يخدم مصالحها القومية، في إطار سعيها لتكريس هيمنتها على الإقليم، وتعزيز مكانتها الدولية.