ليست زيارة عادية أن يأتي الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى موسكو، مباشرةً بعد إعادة انتخابه رئيساً للصين لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات، وبعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
قرار جينبينغ الذهابَ إلى روسيا في هذا التوقيت المهم وبقاءه هناك مدة ثلاثة أيام، يعكس الأهمية الكبرى التي يوليها الرئيس الصيني لموسكو، ورسالة واضحة وصريحة للولايات المتحدة والدول الأوروبية أن النظام العالمي ليس مقتصراً وحده على اللاعب الأميركي.
زيارة شي إلى روسيا تترجم في أكثر من سياق، إذ تُفهم على أن بكين ترغب في ممارسة دور الوسيط الدولي في الحرب الروسية ضد أوكرانيا، والرغبة في تعظيم هذا الدور على الصعيد الدولي اليوم وغداً، خصوصاً بعد توسطها في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران.
تمتلك بكين ثقلاً اقتصادياً كبيراً على الساحة الدولية، ولها علاقات تجارية واقتصادية مع كل دول العالم، وتمكنت من خلال ممارسة سياسة خارجية متوازنة منذ سنوات طويلة، إلى تحسين سمعتها ووضعها السياسي واعتبارها لاعباً مهماً على الساحة الدولية.
من هذا المنطلق ذهب شي إلى موسكو عارضاً مبادرة سلام على نظيره الروسي لإنهاء الحرب في أوكرانيا. غير أن جينبينغ يدرك مصلحة بلاده جيداً ويدرك أن الانحياز إلى موسكو يعني تأزم علاقته بالدول الأوروبية تحديداً.
صحيح أن لدى بكين علاقات استراتيجية مع روسيا وهناك انفتاح كبير على الشراكة الاقتصادية وتبادل السلع وشراء النفط والغاز الروسي، لكن الصين تدرك أن انتهاج سياسة غير متوازنة في المسألة الأوكرانية لصالح موسكو، لن يكون في صالحها.
إذاً لابد في البداية من الاتفاق أن بكين التي تمتلك علاقات تجارية مهمة جداً مع الاتحاد الأوروبي، لا تريد أن تقع في زلة لسان تحاسب عليها اقتصادياً، وحتى بالنظر إلى دوائر صنع القرار الأوروبي، يفهم من هذه الزيارة إلى موسكو على أنها ضمن الخطوط الخضراء.
ثم إن مبادرة السلام التي طرحها جينبينغ ورحب بها نظيره بوتين لم تلقَ استحسان الدول الأوروبية التي عدتها في صالح موسكو نظراً لعدم تطرقها إلى مسألة الانسحاب الروسي من الأراضي الأوكرانية التي احتلتها، إلا أن الرئيس الصيني لم يقدم لنظيره الروسي أكثر من الوساطة، ولن تنخرط بلاده في دعم موسكو عسكرياً وإرسال أسلحة إليها.
وعلى الصعيد الروسي، لا تتوقع موسكو أن تغير بكين من لهجتها لصالح الأولى وتدخل في أزمات دوبلوماسية مع الغرب، لكن روسيا ممتنة كثيراً من هذه الزيارة لأنها تعني وقوف الصين ضد كل المحاولات الغربية لفرض العزلة على موسكو.
نعم، حينما يذهب شي إلى موسكو ويمكث هناك ثلاثة أيام، فكأنه يستهزئ بقرار المحكمة الجنائية الدولية توقيف الرئيس بوتين، هذا إلى جانب أنه يريد دعم صديقه الروسي بلغة الشراكة الاقتصادية لمحاولة التخفيف من وطأة الحصار الغربي المفروض على موسكو، وكذلك دعمه على الصعيد الداخلي.
بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فهي غير سعيدة بالصداقة الروسية- الصينية، وسبق أن حصل تقارب أميركي- صيني أيام الاتحاد السوفييتي لمنع الأخير من هزيمة واشنطن خلال سنوات الحرب الباردة، وتفكيك التحالفات الثنائية أو الجماعية باتجاه إضعاف الاتحاد السوفييتي خارجياً والسعي لتفكيك الكتلة الشيوعية.
أميركا التي قالت وداعاً للتقارب مع الصين، أرادت إدخال روسيا في جو الحرب مع أوكرانيا وقد تحقق ذلك، وموسكو حالياً منشغلة وتصرف كل ما في جيبها على هذه الحرب، وفي المقابل تحاول واشنطن سحب الصين إلى نطاق حرب تجارية لمحاولة إضعافها اقتصادياً.
بكين تدرك أبعاد الخطط الأميركية لجرها في معركة تجارية، ولذلك حينما تتوسط بين السعودية وإيران فهذا يعني أنها في صدد تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، وحينما تواصل عزل علاقتها بروسيا فكذلك الحال الاستفادة من الحصار الغربي على روسيا لجهة تعظيم الشراكة الاقتصادية مع الأخيرة.
يبقى القول إن الصين مثل الولايات المتحدة مستفيدتان من الحرب الروسية على أوكرانيا. الفرق بينهما أن بكين تمارس سياسة الحياد حتى تنكفئ من شر الأعداء، وتركز على الجانب الاقتصادي لبيع السلع إلى موسكو والحصول منها على الطاقة بأسعار تفضيلية.
شي حينما ختم زيارته إلى موسكو قال لنظيره الروسي إن «هناك تغييرات لم تحدث منذ مائة عام. عندما نكون معاً فإننا نقود هذه التغييرات». قد يعني ذلك أن بكين تريد ممارسة نفوذ سياسي في الساحة الدولية يوازي ثقلها الاقتصادي، وبعلاقتها مع روسيا تسعى إلى تشكيل نظام عالمي جديد يلغي القطبية الأحادية وهيمنة الولايات المتحدة على المسرح الدولي.