إطلاق الصواريخ، أول من أمس، من الأراضي اللبنانية تجاه الحدود الشمالية، والصواريخ التي أُطلقت قبل يوم من غزة إلى إسرائيل، حيث تهدد المواجهات في الحرم بإشعال حريق في كل يوم من أيام رمضان، كل هذه وضعت إسرائيل في معضلة معروفة: إلى أي مدى يمكن مد حدود المواجهات العنيفة؟ وكم من الممكن ضبط النفس؟ وأمام من نضبط النفس وحتى متى؟ أو بكلمات أخرى أين تصل "حدود الساحة" ومنطقة نفوذ الحرم الشريف؟
يوم الأربعاء، تجمّع مئات المواطنين في مسجد الكالوتي في عمان، المجاور لسفارة إسرائيل، ودعوا حكومة الأردن إلى طرد السفير الإسرائيلي. زعيم "الإخوان المسلمين" في الأردن، عبد الحميد اذنيبات، الذي حضر التجمّع ، قال، إن "ما حدث، أمس، في المسجد الأقصى أهال الدموع من كل قلب مسلم. الصهاينة ارسلوا رسالة واضحة بأن في نيتهم بناء ما يسمونهم هيكلهم". متحدثون آخرون دعوا الحكومة إلى أن تسمح للمواطنين الأردنيين باجتياز الحدود إلى الضفة من اجل الانضمام إلى نضال الفلسطينيين ضد الاحتلال.
بعد وقت قصير، تم تفريق التجمع من قبل قوات الأمن الأردنية. وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، الذي شارك في مؤتمر حلف "الناتو" في بروكسل، أرسل رسالة قاطعة مفادها: "في الواقع بدأ التطبيع مع إسرائيل، ولكن التزامنا به لا يمكن أن يأتي على حساب القضية الفلسطينية، وعلى حساب مبادئنا. هذه الهجمات (على الحرم) تجاوزت حدودها". وقد انضمت إلى الإدانات الرسمية الشركات الاجتماعية الصاخبة، والتي تنشر فيها أفلام من الصعب مشاهدتها يظهر فيها رجال شرطة وهم يضربون مدنيين بالهراوات وأعقاب البنادق، وعشرات الأشخاص وهم ملقون على الأرض في ساحة المسجد مقيدين بالقيود البلاستيكية خلف ظهورهم. هذه الردود ليست جديدة، وسبق رؤية أمثالها وأسوأ منها في سنوات سابقة. ولكن الجديد المقلق هو في الانضمام النشط والمسلح للتنظيمات الفلسطينية في لبنان لأحداث الحرم.
هنا تزداد المعضلة الموضوعة أمام إسرائيل. تنصل "حزب الله" في الواقع من المسؤولية عن إطلاق النار، وأيضا لم يشر إلى الجهات التي قامت به. بيد أن التنسيق الكامل الموجود بين التنظيمات الفلسطينية، التي تعمل في لبنان وبين "حزب الله" في كل ما يتعلق بنشاطها العسكري، يقيد جدا استقلالية النشاط الفلسطيني من الأراضي اللبنانية. من هنا وعندما يتم إطلاق نار بهذا الحجم، فإن الافتراض يقتضي القول، إنه تم بعد تنسيق ومصادقة من "حزب الله".
في غضون ذلك، تتخذ إسرائيل إزاء لبنان السياسة التي تبنتها تجاه غزة. والتي بمقتضاها تميز بين هجمات "حماس" وبين هجمات "الجهاد الإسلامي" أو تنظيمات أخرى، هكذا فإنها تميز بين هجمات "حزب الله" وبين إطلاق النار التي تقوم به منظمات فلسطينية. يساعد "حزب الله" نفسه في هذا التمييز. على الرغم من الخطاب الملتهب للأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، والتشجيع الذي يقدمه للمقاومة الفلسطينية من اجل أن تصطدم مع نظام الاحتلال الإسرائيلي، فإنه ما زال يفضل، والأصح يضطر، إلى التمسك بموقف المتعاطف المتحمس الذي يجلس على المنصة في الوقت الذي هو نفسه مقيد بشبكة سياسية داخلية تجبره على التصرف بحذر شديد.
في قلب المعركة اللبنانية، توجد قضية تعيين رئيس جديد للدولة – والتي تدار، منذ تشرين الأول، عندما أنهى ميشيل عون ولايته، بدون رئيس. في هذا التعيين يكمن على الأقل نظريا المفتاح لحل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الدولة، والتي تعتبر دولة مفلسة. حتى الآن كان يمكن لـ"حزب الله" أن يملي دون قيد شروطه وان يدفع قدما بترشيح سليمان فرنجية للرئاسة. فقد نجح في أن يفرض على فرنسا صيغة تسوية بموجبها فإنها ستوافق على أن يكون الرئيس هو فرنجية مقابل ذلك أن يكون رئيس الحكومة هو نواف سلام، الذي يعتبر محايدا.
بيد أنه إلى داخل مصفوفة القوى في لبنان دخلت المصالحة بين السعودية وإيران، والتي أعلنت عنها الدولتان، الشهر الماضي. أول من امس، التقى للمرة الأولى وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، ونظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في بكين، ووقعا على بيان مشترك بأنه سيتم استئناف اتفاق التعاون الأمني الذي وقع بين الدولتين في سنة 2001، وستفتح القنصليات والسفارات من جديد، وستستأنف الرحلات الجوية المباشرة بين كلا الدولتين. في البيان ورد أن الدولتين ستعملان معا من اجل الدفع قدما من أجل الأمن الإقليمي.
وحتى قبل البيان الذي ينهي قطيعة تبلغ سبع سنوات بين الدولتين، فإن السعودية تحولت إلى الشريك الأكبر في الجهود الدولية للعثور على حل الأزمة في لبنان. العلاقة الجديدة بين السعودية وإيران تضع "حزب الله" أمام واقع جديد لم يكن معروفا، فيه سيكون على "حزب الله" أن يأخذ بالحسبان ليس فقط موقف الدولة الراعية له، بل أيضا التفاهمات التي سيتم التوصل لها بين ايران والسعودية في القضية اللبنانية. إن تدخلا عسكريا مباشرا في المواجهة الإسرائيلية – الفلسطينية معناه وضع لبنان كله على لوحة الأحداث الإسرائيلية. إذا كان الأمر كذلك، فإنه سيعرض للخطر المكانة السياسية للبنان، وهذه المرة ليس فقط أمام أعدائه في الداخل، بل أمام الكتلة الدولية الجديدة الآخذة في التبلور، والتي ايران عضو فيها أيضا. علاوة على ذلك، عندما تدفع السعودية وجاراتها قدما بعودة سورية إلى حضن الجامعة العربية، فإن "حزب الله" لا يمكنه أن يبدو عبوة ناسفة ستخرب الخطوات التي هي أكبر منه.
حتى إذا كان نصر الله ليس شريكا في النضال الفلسطيني وستهدأ الجبهة اللبنانية لن يكون في هذا ما من شأنه أن يقلل تهديد الاشتعال في الحرم في الوقت الذي توجد فيه في إسرائيل الحكومة الأخطر، والتي تقلص دور الوساطة التي تديره مصر بين إسرائيل والمنظمات الفلسطينية. في شباط الماضي، استضافت مصر وفوداً من "حماس" و"الجهاد الإسلامي" من اجل محاولة رسم "الخطوط الحمر" للرد الفلسطيني قبيل بداية رمضان. في نهاية اللقاءات اتضح، أول من أمس، أن التفاهمات التي تم التوصل إليها كانت ضعيفة جدا: حاول رئيس المخابرات المصرية، عباس كامل، إقناع رئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، إسماعيل هنية، بتقييد الرد العنيف واستخدامه فقط في حالة مهاجمة غزة مباشرة. حسب تقارير في وسائل الإعلام العربية فإن هنية رد بأن معنى طلب كهذا هو "فصل الجبهات بين الضفة وبين غزة"، ولهذا لا يمكنه الموافقة على ذلك. كان زعيم "الجهاد الإسلامي"، زياد النخالة، اكثر فظاظة عندما أوضح ان تنظيمه لن يقف مكتوف الأيدي إزاء الهجمات وقتل مقاتليه في ساحة القتال في الضفة.
جرى هذا اللقاء في اليوم الذي التقى فيه رئيس الأركان، هرتسي هليفي، نظيره المصري، أسامة عسكر، في البحرين. نقل عسكر إلى هليفي مخاوف مصر من اندلاع حرب في عدة جبهات إذا لم يضغط هليفي على الحكومة ويكبح خطوات أحادية الجانب من جانبها. هذه الرسالة، بالتحديد عبر هليفي، كان يمكن أن تدلل على المصاعب التي تواجهها مصر في إدارة حوار مباشر ومعقول مع نتنياهو، والذي حسب رأيها هو أسير بأيدي وزراء متطرفين. احدهم، إيتمار بن غفير، قام بعملية استعراض عندما زار الحرم. الثاني، وهو بتسلئيل سموتريتش، لا يخفي توقه لتهويد شرقي القدس ويدفع لتوسيع الاستيطان في الضفة. هذا، حتى قبل أن يلقي سموتريتش خطابه في باريس والذي نفى فيه وجود الشعب الفلسطيني على خلفية خارطة لـ"ارض إسرائيل الكاملة"، والتي تضم أيضا الأردن.
تواصل مصر أيضا في هذه الأيام نشاطات كبحها لـ"حماس" وإسرائيل. ولكن قدرتها على تنفيذ مهمتها الأخلاقية كوسيط، حيث نجحت طوال سنوات في تقييد مجال المواجهة العنيفة، ترتبط بدرجة التعاون الذي ستجده من الجانب الإسرائيلي. تخاف مصر من أن مبادرات سيقوم باتخاذها سموتريتش، المسؤول عن الإدارة المدنية، مثل إلغاء تسهيلات مدنية، ستدمر التفاهمات التي تم التوصل إليها بين إسرائيل و"حماس"، والتي تعزز الوضع القائم، وتغذي احتياج "حماس" لخدمات مصر وإسرائيل.
بعد أقل من أسبوعين من اللقاء في القاهرة، جرى في العقبة اللقاء الذي استهدف كبح اندلاع انتفاضة، والذي شارك فيه ممثلون من مصر، الأردن والسلطة الفلسطينية، الولايات المتحدة، وإسرائيل. كان هذا منتدى يمثل سابقة، حيث حل محل إطار النقاشات الثنائية المعتاد والذي فيه إدارت إسرائيل اتصالاتها مع كل دولة عربية على حدة حسب جبهتها. مع مصر حول غزة ومع الأردن حول القدس والضفة. بعد شهر من ذلك، اجتمع هذا المنتدى في شرم الشيخ وفي الشهر القادم من المتوقع أن يجتمع في المغرب بشرط ألا تتدهور الجبهة الإسرائيلية – الفلسطينية إلى حرب شاملة.
إلى جانب هذه اللقاءات، تعمل الإمارات بصورة مستقلة أمام إسرائيل والسلطة الفلسطينية. رئيس الإمارات، محمد بن زايد، الحلف العربي ربما الأقرب لإسرائيل، كف منذ فترة عن تحذير نتنياهو برسائل وبمحادثات سرية. حيث انتقل إلى العمل العلني الذي تضمن توجهات مشتركة مع السلطة الفلسطينية إلى مجلس الأمن من أجل الحصول على قرارات إدانة ضد إسرائيل.
هذه المنتديات، التي تشارك إسرائيل في عضويتها، تجبرها على أن تأخذ بالحسبان مصالح الدولة التي طبعت علاقاتها معها، وأصبحت حلفاء رغم كونها دولة محتلة. ولا أي دولة من هذه الدول تهدد بخرق اتفاقات السلام أو بمقاطعة إسرائيل. أكثر من هذا، زعماء الدول الأعضاء في هذا المنتدى تتم مهاجمتهم؛ لأنهم يمنحون إسرائيل رخصة لمواصلة احتلال الفلسطينيين.
الرد المعتاد هو أن اتفاقات السلام تستخدم رافعة ضغط سياسية على إسرائيل وتخدم مصالح هذه الدول. إسرائيل من جانبها استخدمت اتفاقات السلام دليلا على أنها يمكنها عقد سلام مع دول عربية دون حل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال. كلا الصيغتين، العربية والإسرائيلية، هي كذابة ومضللة. ثمة للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني حضور ثابت، وهو يهدد نسيج العلاقات الحساس بين الدول العربية وإسرائيل. بدأت هذه الدول بالتشكيك بالرافعة السياسية التي وضعتها بأيديها اتفاقات إبراهيم لأنها أصبحت غير مقتنعة بأن رئيس حكومة إسرائيل يريد ويمكنه منع تحويل الحرم إلى بركان نشط، سينثر حممه الملتهبة عليها.
عن "هآرتس"