كيف تشعر الحكومة والمعلمون كلا الطرفين المتصارعين أمام ضياع مئات آلاف من التلاميذ؟ أي شعور وأي ضمير لديه الحد الأدنى من المسؤولية ممكن أن يتعايش مع كارثة تتحقق أمامنا جميعاً وخصوصاً حين يكون أحد صانعيها، بات واضحاً أن المأزق الفلسطيني الذي يزداد تعمقاً ينتقل إلى مساحات أكثر خطورة وأبعد مما كان متوقعاً، وأن الانهيار الذي تمر به الحالة الفلسطينية يسير بثبات ولم يعد من الممكن تبرئة الفلسطيني الذي أفرط في ذاتية على حساب كل شيء.
يبدو أن هناك فقداناً للتوازن بين المصالح العامة والخاصة، فقد تداخلت الخطوط وانهار الفاصل بينهما لنجد التلاميذ بعد أكثر من شهرين على الإضراب يلهون في الشوارع بلا مستقبل ولا أفق، فالعام الدراسي بات يقترب من نهايته وتبقى أسابيع للامتحانات النهائية، وهناك طلاب يتحضرون للثانوية العامة للانتقال للجامعة مع نهاية هذا الصيف. يقابل كل هذا لامبالاة كبيرة تجاه كل من يهمه الأمر حكومة وفصائل ومعلمين وانعدام مسؤولية لا تشعر بحجم الكارثة.
الحكومة والمعلمون... لا يمكن تبرئة أحد مما يتحقق أمامنا، الحكومة من ناحيتها لم تدر مجتمعها المدني وفقاً للقواعد السليمة وبات واضحاً أنها عجزت عن الاستمرار، فقد نثرت ما يكفي من الوعود العاجزة عن تحقيقها دون حساب وهي تدرك مأساة الواقع الاقتصادي والسياسي، وقد كان للعلاقة بينها وبين مطالب المعلمين ما يعطي مثالا يضاف لأمثلة سابقة اتضح فيها تواضع كفاءة الحكومة وتواضع أدائها كأمثلة استيراد العجول ونفط العراق.
أما المعلمون من ناحيتهم والذين لا يمكن النظر لاستمرارهم بهذا الإضراب سوى فقدانهم للمسؤولية. فإذا كانوا يتهمون الحكومة بعدم مسؤوليتها فأين مسؤوليتهم هم أمام كارثة تتحقق هم طرف رئيسي في صناعتها؟ وهم يدركون أن الحكومة تعمل تحت الاحتلال ولم تتوقف حكومة نتنياهو عن اقتطاعات المال الشهرية وانحسار المساعدات الدولية.
وسط هذا الإصرار على تحقيق كل المطالب المالية، ودون ذلك فليظل الأبناء في الشوارع وليذهب مستقبلهم للجحيم ...!
هناك ما يعرف بالمسؤولية الاجتماعية وتلك تشكل ناظماً أكبر حتى من القانون للعلاقات والمصالح، وهي التي تضبط التوازن بين البشر وتكبح أنانيتهم وإلا فتنهار المجتمعات، فليس الأمن ولا القانون هما الناظم الرئيسي ولا يساويان شيئاً دون المسؤولية الاجتماعية التي يبدو أنها في طريقها للتلاشي على وقع الانهيارات الحاصلة لدينا.
هناك مطالب عادلة للمعلمين لا يمكن نقاشها، وهناك مطالب أبعد من الواقع. فمن حق المعلمين ممارسة حقهم الديمقراطي في انتخاب قيادتهم، وهذا يسهل التفاوض والوصول لحلول طالما أن هناك قيادة منتخبة وعلنية لا تترك مجالا لقيادات سرية محل تساؤلات تدير إضراباً عبر السوشيال ميديا وتتهم بتسييس الإضراب تسمح لأطراف نقيضة للسلطة لها باستغلال الإضراب لهدم السلطة.
بالمقابل هناك ضغط كبير على الحكومة في القضية المالية ويبدو أنها تتجاوز قدراتها، صحيح أن هذه الحكومة تتحمل عواقب اتفاقياتها التي تعقدها دون ادراك لممكناتها، فتتسبب بصناعة الازمة، ولكن على المعلمين التواضع قليلاً للوصول لحل وسط من أجل الابناء، وقد تم التوصل لحل وسط ممكن يعمل على تجزئة الحل قادر على الخروج من الأزمة، في ظل تساؤلات كبيرة عن سياسة الحكومة تجاه العلاوات ولماذا طالب بها القطاع التعليمي، ولماذا يحرم منها حامل شهادة البكالوريوس في الشؤون الاجتماعية مثلا ويحمل نفس شهادة المدرس؟ ويتساءل كذلك العاملون في مؤسسات الأمن من حمَلة البكالوريوس غير المسموح لهم بالإضراب عن مساواتهم بالمدرسين، ما يُظهر تبايناً واضحاً أخطأت فيه الحكومة، وتصنع هذا القدر من التمييز الذي سيحرض قطاعات أخرى باتت تشعر بالغبن ناهيك عن الفارق مع موظفي غزة.
كيف يمكن الخروج من هذه الدوامة التي باتت تحدث كل هذا التآكل في الجسد الفلسطيني؟ سؤال بات ابنا لضرورة لحظة يقف فيها مستقبل جيل بكامله على المحك، إضراب ذهب أبعد مما يجب في الخسارة وتجاوز الخسارات الشخصية نحو خسارة وطنية كبرى تضاف إلى سلسلة الخسارات التي تتراكم يومياً. ويبدو أن هناك خللاً في فهم اللحظة أصاب كل الفلسطينيين من قيادة ونقابات وحكومة ومواطنين ورجال أعمال، كلهم يتصرفون كأن هناك دولة مستقلة وتملك كل إمكانيات الدول، هذا ما يمكن تلمُّسه في سلوك المسؤول وسلوك القطاعات النقابية وسلوك المواطن، وكل شيء بات منفصلاً عن واقع شعب تحت الاحتلال.
الشعوب تحت الاحتلال تغامر بكل شيء إلا التعليم، حيث يدرس الطلاب في أسوأ الظروف ويقبل المعلمون بأقل الإمكانيات، هذا حدث لكثير من الشعوب أثناء الحروب، كانت العملية التعليمية تجري في خيام باردة وقام المعلمون بدورهم التاريخي تدفعهم مسؤوليتهم الاجتماعية، يحدث هذا لمعلمي غزة الذين يقبلون بالقليل، فلماذا لا يشكلون نموذجاً لإخوتهم في الضفة؟
الأساس في الأزمة له طرفان، ويبدو أن أزمة الثقة هي الوقود الذي تستمد منه سلسلة الأزمات القائمة كل اسباب استمرارها ونخرها للمجتمع ومقومات بقائه. كيف يمكن ترميم هذه الثقة في ظل هذا الانقسام الأكبر الذي تتداخل فيه كل عوامل التحريض والتربص؟ المسألة ليست صعبة لكن الأساس أن يتوقف عبث الإضراب فوراً، لأن الأمر لا يحتمل أكثر، وإلا فإن محاسبة الحكومة والمعلمين تصبح مهمة الشعب الفلسطيني حفاظاً على مستقبله وحتى لا يضيع مستقبل الأبناء أكثر .