بات التنظيم الدولي على ما هو عليه منذ عقود لا يصلح للتعبير عن مصالح الدول المتعاقدة فيه، كما لم يعد يعكس حقيقة موازين القوة التي تحكمه. فالتنظيم الذي نجم نتيجة صراعات أوروبية داخلية كانت بعض الأطراف خاصة الغربية جزءاً منه لم يعد فعلاً تنظيماً دولياً حقيقياً بل مجرد لقطة ساكنة عن زمن مضى.
أوروبا التي أنهكت العالم بحروبها وبصراعاتها وجشعها الاستعماري، ومزقت دولاً ودمرت حضارات أصلية كثيرة مازالت حتى اللحظة تعكس سياساتها وصراعاتها وخلافتها على بنية هذا التنظيم وعلى مقدرته أن يكون تنظيماً دولياً حقيقياً لكل أعضائه. للدرجة التي لم يعد فيه تنظيماً ولا دولياً، إذ لا مكان فيه للضعيف ولمن لا يقدر على فرض إرادته أو يصنع تحالفات تعكس هذه الإرادة.
لقد تجلى التنظيم الدولي في الفترة بين الحربين العالميتين وما بعدها في تطوير منظمة الامم المتحدة وهيئاتها المختلفة والتي في الصدارة منها مجلس الامن الدولي. والمجلس في الحقيقة ليس إلا مجلس وصاية من الدول الخمس الكبرى في المرحلة التي تلت الحربين، يمارس سلطة منحتها تلك الدول لنفسها برضا وتوافق شركاء وأطراف الصراع والحرب، وظل الأمر قائماً حتى اللحظة دون تغير كما لو كان شيئاً مقدساً، فيما هو ليس إلا تعبيراً مختلفاً لترجمة الاستعمار والهيمنة. وخلال نظرة عابرة لتاريخ المنظمة الدولية وجردة حساب محايدة فإن إنجازاتها لم تكن بأي حال على قدر المسؤولية. إذ إن جُل ما عملته أنها حافظت على التوازن بين القوى الكبرى، فيما تركت كل واحدة منها تنفرد بفرائسها وتلتهم غنائمها دون رادع. فلم يتمكن احد مثلاً من إدانة أي سلوك للولايات المتحدة الأميركية، حتى المذابح والسجون والاحتلال الذي كانت تمارسه ومازالت لم يصدر عن المنظمة الدولية أي قرار بإدانته، لأن طبيعة وتركيبة مجلس الأمن الدولي تعطي أي لص قادر على التحالف مع لصوص آخرين المقدرة على السطو على البلدة باسم القانون. ألم تحتل واشنطن العراق باسم التنظيم الدولي وباسم الشرعية الدولية، فيما ظلت مئات القرارات الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة المختلفة بلا تطبيق؟
ربما الشيء الوحيد الذي قامت به الأمم المتحدة طوال مسيرتها الحالية كان تسليم فلسطين للعصابات الصهيونية من خلال إقرار مبدأ الانتداب الذي أتاح لبريطانيا سلطة احتلال فلسطين باسم المجتمع الدولي وإدارتها، حتى يتمكن الغرباء منها ويتم بناء مستوطنات ومدن لهم، وبعد ذلك تسليحهم وتسليمهم البلاد وتركهم يذبحون ويقتلون ويقتلعون ويهجّرون أيضاً دون رادع. وبعد ذلك بالطبع إصدار قرار التقسيم الذي شرعن وجود المستوطنين في البلاد تمهيداً لتسليم سكانها العزّل للعصابات.
وربما الأكثر مرارة كان اعتراف الجمعية العامة بالدولة التي أقيمت على أنقاض الشعب الفلسطيني وإعطائها عضوية فيها دون الالتفات لحقوق الشعب الفلسطيني التي أهدرتها المنظمة الدولية ذاتها. وبعد ذالك عرقلة أي قرار له علاقة بالحقوق الفلسطينية ومنع تنفيذه او عدم وضع آليات ملزمة لذلك.
لم تكن المنظمة الدولية إلا «مذبحاً» تم فيه سلخ حقوق الشعوب المظلومة أمام إرادة القوى العظمى. كما ضاعت فلسطين وتم احتلال العراق، وتم تدمير أفغانستان، كما تم السكوت عن جرائم واشنطن في أميركا الجنوبية وجرائم بريطانيا وفرنسا في أفريقيا. وتحت بند «تصفية الاستعمار» الذي تبنته المنظمة الدولية تم تأمين انسحاب قوى الاستعمار من مستعمراتهم بعد أن أنهكوها واستنزفوا قوتها وقدراتها دون محاسبة.
لم يكن هناك من يحاسب أحداً على جرائمه، وتم اعتبار كل شيء من الماضي الذي لا حاجة لنبشه. بعض الدراهم هنا وهناك ومشاريع التنمية والدعم المربوط والدعم المشروط مثل صدقات الأغنياء.
في العقود الثلاثة الأخيرة ارتفعت الأصوات التي تطالب بإصلاح هذا الفساد في بنية الأمم المتحدة من أجل ضمان أن تكون جمعية الجميع وليس نادياً يحكمه الأقوياء، خاصة بعد انهيار جدار برلين وانعدام الحاجة للتوازن الوهمي الذي كانت تخلقه العضوية الدائمة وحق النقض وغير ذلك من ترتيبات استعمارية جديدة. بجانب ظهور قوى أخرى جديدة في الساحة الدولية لا تقل قوتها العسكرية ولا الاقتصادية عن الدول الدائمة العضوية. فإذا كانت تركيبة المجلس تعكس ميزان القوة السابقة فإن إصلاحه يقتضي أن يعكس موازين القوة الجديدة في العالم.
ومن جهة ثالثة، فإن الدعاوى لدمقرطة السياسة الدولية تتطلب تمثيل قوى مختلفة من القارات المختلفة. فمن غير المعقول أن لا تتواجد قارة مثل أفريقيا في المجلس ولا تمتلك صوتاً دائماً، كذلك الحال بالنسبة لأميركا الجنوبية وأيضاً المنطقة العربية. الرئيس التركي أردوغان خلال إفطار للسلك الدبلوماسي أشار إلى هذه الضرورة، إذ إن طريقة تنظيم العلاقات داخل المنظمة الدولية غير قابلة للاستمرار لأنها لا تعكس حقيقة العلاقات ولا موازين القوة ولا المصالح التي تربط الدول.
قال أردوغان إن «النظام الذي يحمي القوي ويتجاهل حق الضعيف ويحبس مصير الإنسانية بين شفاه خمس دول ليس مستداماً. هناك حاجة ملحة لإصلاح مجلس الأمن الدولي بنهج شامل». هذه المطالب يجب أن تكون ذات أولوية حتى يتوقف مجلس الأمن الدولي عن أن يكون نادياً حصرياً ويكون هيئة تحمي مصالح الأمن والسلام الدوليين.
دعوة أردوغان ليست جديدة، لكنها أيضاً تعبر عن الحراك المستمر والذي يجب أن يستمر من أجل إعادة تكوين التنظيم الدولي بما يخدم مصالح شعوب العالم. وربما النقطة الأساس في ذلك هو إزالة مبدأ حق النقض من حيث المبدأ، إذ لا يجوز أن يمتلك البعض الحق في تعطيل قرارات الأغلبية، او خلق نوع من التصويت الذي يكفل حجوماً وأوزاناً مختلفة تعكس نوعاً صارماً من الرقابة وحماية مصالح الآخرين الضعفاء غير الممَثلين فيه.