يبدو أن جنيف 3 مختلف عن جنيف 1 و2، ليس من حيث الاختلاف بين فرقاء النزاع السوري، لأن هذا الأمر حاضر كل الوقت وإنما من حيث وجود تحولات جديدة تعكس نفسها على واقع النزاع الذي أنهى عامه الخامس.
قبل الحديث عن اختلاف هذا المؤتمر عن المؤتمرات التي قبله، ينبغي الإشارة هنا إلى أن الاتفاق على موعد انعقاد جنيف في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، جاء بعد توافقات بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا على هذا الموعد الذي كان يفترض أن يكون في الخامس والعشرين من ذات الشهر.
سبب التأجيل جاء ناتجاً عن خلافات كثيرة سبقت انطلاق جنيف، من بينها عدم الاتفاق حول من يمثل المعارضة السورية، واستبعاد بعضها من الجولة الأولى لهذا المؤتمر، إلى جانب عدم الاتفاق على تحديد قائمة التنظيمات الإرهابية لمحاربتها.
المبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا حصل على الضوء الأخضر من قبل الأمم المتحدة التي حصلت هي الأخرى على الضوء الأخضر من واشنطن وموسكو لإرسال دعوات إلى ممثلين عن النظام السوري وكذلك الحال لممثلين عن المعارضة السورية.
هذه الدعوات سبقت انعقاد جنيف بأيام قليلة، والسبب كما ذكر آنفاً يتصل بحالة الخلاف الكبير بين القوى الدولية المؤثرة في النزاع السوري فضلاً عن فرقاء النزاع، ذلك أن ممثلين عن المعارضة السورية ربطوا مشاركتهم في جنيف بضرورة وقف القتال في المناطق التي تشهد نزاعاً مع القوات الحكومية السورية.
أضف إلى ذلك أن تمثيل المعارضة ليس متفقا عليه حتى بين قوى المعارضة نفسها وغير متفق أيضاً بين القوى الدولية، إذ على سبيل المثال رهنت تركيا مشاركتها ودعمها للمسار السياسي السوري بعدم إشراك الأكراد ضمن مؤتمر جنيف.
دي مستورا قرر أن يلملم الموضوع وأن يمتنع عن إرسال دعوة إلى ممثلين عن الأكراد، الأمر الذي استفز بعض أطراف المعارضة السورية التي قررت ربط مشاركتها بحضور ممثلين عن الأكراد، غير أن الموضوع حسم لصالح عدم مشاركة هؤلاء في الجولة الأولى من جنيف، وعلى أن يكون لهم حضور لاحق في قادم الجولات الأخرى.
هذه القضايا الخلافية تشكل مؤشرات على ضعف هذه الجولة من المباحثات، خصوصاً وأنها غير مباشرة بين فرقاء النزاع السوري، بمعنى وجود مرسال أو صليب أحمر لتقريب وجهات النظر بين الفريقين، بالإضافة إلى أن المشاركة المجتزأة للمعارضة تقوض من جهود الوصول إلى إنجازات ملموسة.
المعارضة لم تكن لتشارك في جنيف لولا الضغط الأميركي الذي مارسه وزير الخارجية جون كيري، والذي هدد المعارضة بخسارة الحلفاء إن لم تذهب إلى هناك، وكذلك الحال بالنسبة إلى المبعوث الأميركي الخاصة إلى سورية مايكل راتني الذي حث المعارضة على حضور المباحثات، وكل هذا يضيف تعقيدات على نتائج هذه الجولة التي من المرجح أنها لن تجني من الشوك العنب.
عودة إلى الحديث عن اختلاف هذا المؤتمر عن سابقيه، إذ يمكن القول إن المعارضة ما تزال غير متفقة فيما بينها على قلب رجل واحد، وهذا الخلاف كلما تعزز وهو كذلك، كلما يعطي عنصر قوة للنظام السوري الذي ما يزال يتمتع بصحة وعافية.
كما أن وقائع القتال على الأرض مختلفة عن أيام زمان، حيث تدخلت روسيا بطلب من سورية، وأوعزت الأولى لذراعها العسكري الجوي بقصف معاقل التنظيمات المعارضة وعلى رأسها «داعش» المتطرف، بينما قدمت دعماً عسكرياً للقوات الحكومية السورية التي تمكنت مؤخراً من استعادة مناطق مهمة في درعا واللاذقية ومحيط دمشق.
هذا الحسم يؤثر بطبيعة الحال على مباحثات جنيف، هذه التي تبدأ في الوقت الذي يواصل فيه فرقاء النزاع قتالهم، ذلك أن كل طرف يسعى بقوة لكسب مناطق جغرافية تجعله قادراً على فرض مواقفه خلال جنيف حيث استكمال المفاوضات لستة أشهر.
ثم إن الموقف التركي لم يعد كما كان قبل حادثة إسقاط الطائرة الروسية بالقرب من الحدود السورية، ذلك أن روسيا استنفرت كبرياءها للرد على أنقرة بتحذيرها من مغبة دخول الحدود السورية، وأخذت حالة الاشتباك بين البلدين بعداً مهماً انعكس على الملف السوري.
فور إسقاط الطائرة الروسية، كانت موسكو تعزز قواتها في سورية وتنشر صواريخ اس 300 واس 400 الباليستية، وتكثف الضرب الجوي الروسي تحديداً في مناطق بالشمال قرب الحدود التركية، وفي ذات الوقت سعت موسكو إلى تحجيم الدور الذي تبذله تركيا في الملف السوري.
وعلى ما يبدو أن موضوع الرئيس السوري بشار الأسد، سوف لن يكون على أجندة المباحثات الحالية، إذ ظل هذا الموضوع مطروحاً كل الوقت كأهم نقطة خلافية بين مختلف القوى المؤثرة في النزاع السوري، إنما الأمور باتت معقدة ومختلفة من حيث ترتيب الأولويات.
المباحثات ستأخذ بمبدأ التدرج، وستدخل في صلب مناقشة القضايا الإجرائية، مثل تجميد النزاع والإفراج عن السجناء، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المستحقين من المنكوبين، وإيجاد حلول لفرملة هجرة السوريين إلى خارج بلادهم.
غير أن الخلافات الكثيرة التي سبقت انطلاقة جنيف، تنذر بفشل هذا المؤتمر وعدم الاتفاق حتى على الحدود الدنيا من القضايا الإجرائية، خصوصاً وأن الجولة الأولى ستكون سورية محضة، أي فقط بين فرقاء النزاع السوري دون مشاركة الدول العظمى المؤثرة في هذا النزاع المعقد.
في إطار كل ذلك، يلاحظ أن القوات الحكومية السورية بدأت بالفعل تستعيد عافيتها بعد التدخل العسكري الروسي الذي أنقذها من حافة الفشل العسكري، يضاف إلى ذلك تردد الموقف الأميركي الذي كان يؤكد كل الوقت بضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية مرتبطة برحيل الرئيس الأسد، غير أن النغمة تغيرت إلى الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية.
مثل هذه التغيرات بالتأكيد ستنعكس على العمر الافتراضي للمسار السياسي السوري الذي تحدد بقرار صادر عن مجلس الأمن الدولي الذي دعا إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية في غضون ستة أشهر، وعلى أن يتبعها إجراء انتخابات في غضون 18 شهراً.
أخيراً يمكن القول: إن جنيف تمثل جولة جديدة من النزاع، شأنها شأن النزاع العسكري الذي يتواصل بقوة، وهذه الجولة السياسية لن تقود إلى نتائج مهمة، باستثناء أنها تأتي حلقة من حلقات المباحثات السورية، و»الرك» على الطرف الذي يحسم المعركة على الأرض، لأن الحل في نهاية المطاف سيكون سياسياً، لكنه مرهون للحسم العسكري الذي سيقرر من الرابح ومن الخاسر في هذا النزاع الدموي الشرس.
-