يمكن القول إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فهم المعادلة، لذا استجاب لتوصيات الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية، التي أشارت الى أن إسرائيل لن تكسب شيئاً من حرب إقليمية متعددة المجالات.
حرب صواريخ وتهديدات شهدتها جبهات عدة الفترة الماضية، وتراشق صاروخي سياسي ما بين جنوب لبنان وغزة وإسرائيل، ما أوحى باحتمالات حرب طُوِّقت مرحلياً من دون أن تُحل أسبابها.
فمنذ مطلع العام، تعيش مناطق الضفة الغربية تصعيداً غير مسبوق في عنفه، تسبّب بسقوط ما يقارب الـ90 فلسطينياً، في ظل حكومة إسرائيلية هي الأكثر تطرفاً، وقد تسببت سياساتها باعتقال العشرات وتضييق العيش أكثر على الفلسطينيين.
هذه الوقائع جعلت المزاج العام الفلسطيني أكثر بعداً من فكرة الحلول السلمية وأكثر تقبّلاً لفكرة المواجهة المسلّحة. ففي فلسطين، ازداد تأييد العمل المسلّح ورفض حل الدولتين، وفقاً لاستطلاع الرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في آذار/ مارس، على ضوء الأحداث الأخيرة في شمال الضفة الغربية.
بحسب الاستطلاع، أكدت غالبيةٌ تصل إلى 70 في المئة من المشاركين في المسح، أنها تؤيد عملية إطلاق النار على المستوطنين التي حصلت في حوارة في آذار 2023، وقال ثلثا سكان الضفة الغربية إنهم يؤيدون تشكيل مجموعات مسلّحة.
نسبة كبيرة من الفلسطينيين، تؤيد أيضاً إطلاق الصواريخ من غزة، إلا أن الجدال لا يزال قائماً حول دعم “العمل المقاوم” في الضفة الغربية، وتصعيد “المقاومة الشعبية” ضد الاحتلال وسياساته العدوانية، خصوصاً إثر الاعتداءات على المسجد الأقصى، الذي يعتبر العنوان الرئيسي للعمليات المسلّحة ضد إسرائيل.
استراتيجيّة الاحتواء ومعركة “الكثبان الرمليّة”
اللافت، أن الاعتداء الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة وجنوب لبنان مرّ بهدوء نسبي، إذ لم تتطور الأمور إلى “حرب”، على رغم تصريحات مسؤولين إسرائيليين، وتغطية وسائل الإعلام الإسرائيلية التي توقعت ضربات مؤلمة ومدمرة.
في مطلق الأحوال، سعى الأطراف، إسرائيل، “حركة حماس” و”حزب الله”، إلى احتواء جولة الرسائل الصاروخيّة القصيرة، وعملت إسرائيل تحديداً على تحييد “حزب الله”، وإبعاد أي مسؤولية عنه، متبنّية موقفه ذاته، بألا دخل له بما حصل.
وفقاً للمراسل السياسي الإسرائيلي لموقع “واللا” الإخباري، باراك رافيد، فإن “حزب الله” أوضح عبر وسطاء، منهم فرنسا، ألا علاقة له بإطلاق الصواريخ من الأراضي اللبنانية، ولا يعلم بما حصل، لكنه ينسّق مع الحكومة اللبنانية لاحتواء الموقف.
بناء عليه، ووفق مصادر أمنية إسرائيلية، فإن المجلس الأمني السياسي المصغر (الكابنيت) أجمع على تحييد “حزب الله” عن الأحداث، إذ “لا يقين بأن حزب الله كان على علم مسبق بالهجوم الصاروخي المخطّط له”.
اتخذت إسرائيل، بناء على “التحييد” السابق، قرارها بالرد على “حماس” حصراً، مع توقع أن “حزب الله” لن يرد مهما بلغت حدة الهجوم على “حماس”. عاش الفلسطينيون في قطاع غزة بعد الهجمات، ساعات من الانتظار والقلق من طبيعة الرد الإسرائيلي، خائفين من عنف قد يدفع ثمنه أهل غزة.
هاجم الطيران الحربي الإسرائيلي، خلال ساعات الانتظار، مواقع في قطاع غزة وجنوب لبنان، رداً على إطلاق الصواريخ على الجليل. وعلى رغم الخطاب الإسرائيلي المتطرف والتحذيرات الأمنية لضباط الجيش الإسرائيلي، فالأمور كانت واضحة، إذ مالت نحو الاحتواء والتهدئة، وهذا ما اتضح في اختيار إسرائيل الأهداف أو مقدار القوة المستخدمة.
كان رد إسرائيل العسكري مُقيداً، وقال بعض المحللين إنها عملية ضد الكثبان الرملية، أي أشبه بعملية في “الفراغ”. إذ كانت إسرائيل حريصة على عدم الانجرار إلى تصعيد يلحق أضراراً في الساحة الإسرائيلية التي تعيش أزمة سياسية حادة، وكانت أكثر حرصاً على عدم مواجهة “حزب الله”، بذريعة عدم الانجرار إلى معركة، وتحمل إسرائيل مسؤولية الاعتداء على دولة مفلسة، لا تمتلك بنية تحتية تستحق التدمير.
أوقفت إسرائيل القصف الجوي ضد أهداف في غزة، أهداف ضُربت بصورة منضبطة، بزخم أكثر كثافة من المتوسط، إلى جانب هجوم رمزي على أهداف لـ”حماس” في لبنان جنوب صور، مستهدفةً مواقع من دون قيمة، كما أن ردود الجانب الفلسطينيّ اتّسمت برسائل صاروخية محدودة.
في ظل الأوضاع المتوتّرة، استخدمت إسرائيل هذا (الرد) لأسباب خاصة بأوضاعها الداخلية والإقليمية والدولية، والواضح أن السياسة الإسرائيلية المتّبعة سعت إلى إعلان نهاية هذه الجولة بصورة موقتة في الشمال، بانتظار (جولة) أخرى قد تحدث في أي وقت.
هجمات مسلّحة تصعّد التوتر
عملت إسرائيل على تهدئة الأوضاع وحصر نطاق الرد. في المقابل، وقع هجوم، ربما كان متوقعاً، في منطقة أريحا في الضفة الغربية، حيث أطلق مسلحون فلسطينيون النار على سيارة إسرائيلية، وقُتلت مستوطنتان (شقيقتان) من سكان مستوطنة إفرات في غوش عتصيون، وأصيبت ثالثة بجروح خطيرة. وفي مساء اليوم ذاته، نُفذت عملية مزدوجة في تل أبيب، إذ أطلق مسلح النار في الشارع وآخر استخدم سيارته لدهس المشاة، ما تسبب بقتل سائح إيطالي وإصابة 6 آخرين.
يشير بعض المحللين الإسرائيليين إلى أن التغيير في سياسات “حزب الله” و”حماس” بتشجيع من إيران، ازداد في الأشهر الأخيرة، إذ شعرت إيران بلحظات من النشوة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، فالأزمة الداخلية العميقة في إسرائيل كانت فرصة سانحة للتحرك والعمل، خصوصاً أنها تزامنت مع التراجع الأميركي عن التعامل مع ما يحدث في المنطقة، وتعزيز إيران علاقتها مع روسيا (وبدرجة أقل من الصين)، وإحراز تقدّم في محادثات المصالحة مع السعودية والإمارات العربية المتحدة.
يشير المحلل العسكري لصحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، إلى غموض بخصوص الأحداث الأخيرة في الحرم القدسي، إذ يدلل فرضية مفادها أن ما حدث قد يكون كميناً مخططاً له مسبقاً من حماس، وجدت الشرطة نفسها إثره في فخ. يتضح ذلك في مقاطع الفيديو التي شوهد فيها رجال الشرطة وهم يضربون المصلين المحصنين في المسجد الأقصى، ما أثار حفيظة العالم العربي، وقدم ذريعة جيدة لإشعال النيران في الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان.
يمكن القول إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فهم المعادلة، لذا استجاب لتوصيات الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية، التي أشارت الى أن إسرائيل لن تكسب شيئاً من حرب إقليمية متعددة المجالات، بخاصة في ظل الأوضاع السياسية والانقسام الإسرائيلي حول الإصلاحات القضائية، والاتهامات التي يوجهها الائتلاف الحاكم إلى المحكمة العليا والحكومة السابقة، في ما يتعلق باتفاقية الحدود البحرية الموقعة مع لبنان في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2022.
تأخذ إسرائيل بالاعتبار احتمال تطور الأحداث في المستقبل القريب، مراقبةً ما يحدث في المسجد الأقصى، ومستعدةً للنصف الثاني من شهر رمضان، إذ يُتوقع المزيد من الحساسية على خلفية اقتحام اليهود المتطرفين الحرم القدسي في عيد الفصح، في حين تخشى المعارضة ما إذا كان للتصعيد تأثيرٌ في استمرار الاحتجاج على خطة الإصلاح القضائي.