هناك مفهومان لنكبة فلسطين عام 1948، وللثاني منهما شقّان. ينطبق الأول على، وتندرج تحته، تلك الأحداث المروّعة خلال الفترة بعد قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 وقبيل اكتمال توقيع اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل وكل من مصر ولبنان والأردن في إبريل/ نيسان 1949. أما المفهوم الثاني، مفهوم النكبة المستمرّة، فله شقّان أو وجهان: حسب الأول منهما، النكبة الفلسطينية مستمرّة طالما أن آثارها مستمرّة وجرحها مفتوح، بينما حسب الثاني، النكبة مستمرّة طالما أن جرحها مفتوح، وأن إسرائيل ما زالت ترتكب الجرائم بحقّ الفلسطينيين، جرائم مماثلة في نوعها وهولها للتي ارتكبتها خلال عام 1948:
المفهوم الأول: حدث الكثير الكثير والمروّع المروّع خلال الفترة بين قرار التقسيم عام 1947 واتفاقيات الهدنة المذكورة عام 1949. فقد جرى خلال هذه الفترة العاصفة اقتلاع وترحيل ما يزيد عن ثلثي الشعب الفلسطيني، وتفريغ المدن الفلسطينية من سكّانها، وارتكاب عشرات المجازر (في مقدمتها مجزرة دير ياسين)، وهدم مئات القرى بعد تفريغها من السكان، والاستيلاء على الأملاك الفلسطينية، المنقولة منها وغير المنقولة. وينطبق مفهوم النكبة الفلسطينية هذا على كل هذه الفظاىع وغيرها خلال هذه الفترة المحدّدة.
المفهوم الثاني، النكبة المستمرّة (أ): النكبة مستمرّة بهذا المعنى لأن الجرح ما زال مفتوحًا، وتنتهي، تبعًا لذلك، حين يداوى الجرح ويشفى. والدواء/ الشفاء يتطلّب مصالحة تاريخية تنهي الصراع وتزيل ما أمكن وما يلزم من آثاره، وبالشكل الذي ينصف ضحاياه، الكبار منهم والصغار، الأحياء منهم والأموات.
المفهوم الثاني، النكبة المستمرّة (ب): النكبة مستمرّة بهذا المعنى لأن الجرائم المروّعة المماثلة التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني لم تتوقف. وجديد هذه الجرائم أخيرا حرق البيوت في بلدة حوارة، جنوب مدينة نابلس، في مارس/ آذار الماضي، تلك الجريمة التي أعقبتها مناداة أحد الوزراء الفاشيين في الحكومة الإسرائيلية الحالية بمحو تلك البلدة.
ومن هنا، حين نشير إلى النكبة أو نتحدّث عنها أو نذكّر بها، علينا أن لا نخلط بين المفاهيم. وبصورة خاصة، علينا أن ندرك جيدًا ذلك الفرق الكبير بين شقّي المفهوم الثاني للنكبة. فالخلط بين المفاهيم لا يفيدنا في شيء، وقد يكون ضارًا على المستويين النظري والسياسي/ التربوي.
وفي اعتقادي، النكبة الفلسطينية هي ما هي وليست أي شيء آخر: هي تلك السلسلة من الأحداث المروّعة التي أعقبت قرار التقسيم وانتهت مع اتفاقيات الهدنة المذكورة. وحسب هذا الفهم، لا يعني استمرار النكبة أكثر من استمرار تبعاتها وآثارها الماثلة للعيان. وحسب هذا الفهم أيضًا، مفهوم النكبة "مغلق"، بمعنى انطباقة على أحداثٍ معينة جرت في فترة محدّدة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأحداث التي أعقبت تلك الفترة، على روْعها وهوْلها وكثرتها، لا تندرج تحت مفهوم النكبة الفلسطينية. أقول هذا من دون التقليل في شيءٍ من بشاعة تلك الأحداث اللاحقة.
تعريف النكبة الفلسطينية: كل من الشروط التالية ضروري، وفي اجتماعها خلال فترة محدّدة تكون كافية، لتعريف نكبة فلسطين عام 1948. هذه الشروط الضرورية الأربعة: حرمان الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير على أرضه بعد انتهاء حقبة الانتداب البريطاني، والتي دامت 30 عامًا. إفراغ المدن الفلسطينية (يافا وحيفا واللد والرملة وعكا وصفد وطبريا) ومئات القرى (ما يزيد عن 500) من سكانها الأصليين، وتهجير ما لا يقل عن ثلثي الفلسطينيين، معظمهم إلى خارج حدود فلسطين الانتدابية، من دون السماح لهم بالعودة والتعويض. استيلاء الدولة العبرية على الأراضي والمباني (التي لم تُهدم)، العامة منها والخاصة والوقفية، وذلك إضافة إلى سرقة عقارات كثيرة منقولة. باختصار، تهجير ثلثي شعب وسرقة ما ترك وما ملك. اختراع أغلبية يهودية في الدولة الجديدة، بتهجير السكّان الأصليين منها واستقدام اليهود إليها، وفرض نظام الفوقية اليهودية للأغلبية المصطنعة في الدولة، بما يعنيه ذلك من تمييز عنصري شامل ضد من تبقى من السكّان الفلسطينيين داخل حدودها الجديدة واللزجة.
أمًا القتل والترويع والمجازر والاعتقالات التعسّفية والتشريعات الظالمة والحكم العسكري المقيت فأدوات ووسائل في خدمة هذه الشروط الضرورية، بعضها أو كلها. وكما أشرت سابقًا، فإن مفهوم استمرار النكبة (أ) يتوافق مع ذلك كله. ومردّ هذا التوافق غياب الحلّ المُنصف والشافي، والذي يزيل ما أمكن وما يلزم من آثار النكبة. أمًا مفهوم استمرار النكبة (ب) فلا يتوافق مع هذه الشروط الضرورية في حال اجتماعها.
النكبة: فترة مؤسَّسة وأحداث مؤسِّسة (بكسر السين): المفهوم المغلق للنكبة، ذلك المفهوم الذي تدافع عنه هذه المقالة، ينطبق فقط على فترة محددة تمتد، كما قلت، من قرار التقسيم أو بعيد ذلك وتنتهي باتفاقيات الهدنة المذكورة أو قبيل ذلك، وعلى ما تخلّلها من أحداث مروّعة وصاعقة (أقلّ ما يقال). هذه الفترة وتلك الأحداث أوجدت واقعًا جديدًا، من النواحي السياسية والجغرافية والديمغرافية والقانونية، يختلف جذريًا عن الواقع السابق، واقعًا جديدًا أريد له أن يكون دائمآ. وفي هذا الواقع الجديد، غيّرت البلاد، وبقوة السلاح والمكيدة، أصحابها وهويتها ولغتها ومالكي أراضيها وأغلبية سكانها وأصحاب السيادة المستحقّة فيها وعليها. النكبة بهذا المفهوم المغلق هي فترة لها أولها ولها آخرها. أمًا ما تلاها من أحداثٍ مروّعة، من حروبٍ وانتفاضاتٍ ومجازر واعتقالات وجرائم أخرى غيرها، فليس جزءًا منها، وإن كان محمّلًا بأحداثٍ مماثلةٍ لها أو مذكّرة بها. وأكرّر القول في هذا الصدد إن مفهوم النكبة المستمرّة (أ) لا يتعارض مع هذا المفهوم المغلق للنكبة وما يندرج تحته، أو ما ينطبق عليه، من أحداث.
وللإجمال أقول: ليس صحيحًا ما يروّجه بعض المثقفين الفلسطينيين والعرب إن النكبة الفلسطينية ما زالت مستمرّة (ب)، بحجة أن آثارها ما زالت قائمة، وأن جرائم مماثلة ما زالت تُرتكب وتذكّر بها. تمامًا كما ليس صحيحًا أن الحرب العالمية الثانية، مثلًا، ما زالت مستمرّة (ب) لأن آثارها ما زالت قائمة، ولأن أحداثًا مماثلة ما زالت تُرتكب وتذكر بها. وتمامًا كما ليس صحيحًا أن معركة صفّين قبل ما يقارب الـ14 قرنًا ما زالت مستمرّة (ب) لأن الصراع بين الشيعة والسنة ما زال قائمًا ومحتدمًا. هناك، في اعتقادي، أهمية نظرية للفصل بين حقبة وأخرى تالية أو سابقة لها، وذلك لأن السياقات تختلف، والأهداف والمصالح والقوى المتصارعة ودوافع كل منها تختلف. فخلال فترة النكبة الفلسطينية وما تخللها من أحداث مروّعة، كان حال الحركة الوطنية الفلسطينية مختلفًا، وكان العالم العربي والعالم الأوسع مختلفًا عن عالم ما بعدها.
وأخيرًا، إضافةً إلى الأهمية النظرية لمفهوم النكبة المغلق، هنالك أيضًا أهمية عملية، سياسية وتربوية، لعدم الخلط بين فترة النكبة الفلسطينية والفترة أو الفترات اللاحقة، وذلك رغم "الشبه العائلي" بين الأحداث التي تخللت هذه الفترات. تربويًا، وحين يتم إحياء ذكرى النكبة، مثلًا، ليس مصادفةً أو عشوائيًا أن يقال "يوم استقلالهم، يوم نكبتنا". فيوم استقلالهم فرحوا ورقصوا في شوارع تل ابيب، بينما على مرمى حجر أو حجرين من الفرحين والراقصين، كانت يافا الحزينة تفرغ من أهلها، وكانت جثث القتلى الفلسطينيين ملقاةً في شوارعها وأزقتها، صورة رمزية مكثفة للانقلاب السياسي والقانوني والديمغرافي الذي كان يحصل للعباد والبلاد خلال تلك الأيام من ربيع ذلك العام الحزين. أمًا الأهمية السياسية لمفهوم النكبة المغلق فمفادها التالي: واقع جديد مثل للعيان منذ الأسبوع الأول من شهر إبريل/ نيسان 1949، واقع مرعب بقسوته، فرض نفسه علينا، وفرض علينا، نحن الفلسطينيين العرب، واجبًا سياسيًا/ أخلاقيا لتغييره أو تجاوزه بالنضال. هذا الواجب لا يزال قائمًا وضاغطًا رغم مرور 75 عامًا على يوم إحياء ذكرى النكبة