تتوالى المفاجآت غير السارة للأميركيين، والمزعجة دون شك للإسرائيليين، لدرجة أنها ستدفعهم لإعادة حساباتهم، وربما لإعادة ترتيب أوضاعهم الداخلية وتحالفاتهم الدولية، ذلك أن الشرق الأوسط بدوله العربية كلها ودوله الإسلامية، وعلى نحو خاص كل من إيران وتركيا، كان قد دخل في حالة من التفتيت وإعادة التركيب، بعد طول انتظار وإعداد، امتد ثلاثة عقود، منذ انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي، إلى أن وافقت ضمناً واشنطن وساهمت علناً إسرائيل بفتح المجتمعات العربية طوال عقد مضى، أي منذ عام 2011 وحتى وقت قريب، بما سمي بالربيع العربي، وكان ضرب العراق وإسقاط نظام صدام حسين بمثابة "البروفة" أو المقدمة لذلك الربيع العاصف، واعتقدت إسرائيل بأن ما وصل إليه العالم العربي من ضعف وتفتيت وما كان عليه من مناهضة لأميركا وعداء لإسرائيل قد انتهى، خاصة مع نجاحها قبل عامين بعقد اتفاقيات أبراهام سيئة الصيت والسمعة.
واعتقدت إسرائيل، بأن الثمن الذي دفعته في أوسلو كان كافياً، إن لم يكن باهظاً، مقابل تنصيب أميركا زعيماً للنظام العالمي ما بعد الحرب الباردة، وأن أوسلو قابلة للطي والتراجع، وهي بابتلاع الضفة الغربية بما فيها القدس، لا تكون قد خسرت أي شيء، خاصة وأن غزة لم تعنِ لها الشيء الكثير بجغرافيتها الضيقة المكتظة بالسكان، وحين جاء إلى البيت الأبيض أكثر رئيس انحيازاً لها، وأكثر رئيس مناهض للقانون والأعراف الدولية لدرجة عدم قدرته على إخفاء ميوله العنصرية_نقصد دونالد ترامب_ منحها الاعتراف الذي حلمت به بالقدس كعاصمة وبضم الجولان، ثم قام بإعداد صفقة العصر، والتي أنجبت رغم اضطراره لوضعها على الرف، اتفاقيات أبراهام، لكن أقل من عامين أظهرا بأن إسرائيل، الدولة التي تنتمي لحقبة مضت، هي حقبة الاستعمار والهيمنة الإمبريالية بفصولها الثلاثة: الحربان العالميتان، الحرب الباردة، والنظام أحادي القطب الأميركي، إنما هي في طريقها إلى الانزواء.
وانزواء إسرائيل، حتى لا نقول تبديدها وتفكيكها، يعني شيئين أساسيين هما : إنهاء احتلالها لأرض دولة فلسطين، أي قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، هذا إن لم يذهب الأمر إلى أكثر من هذا أي إلى قرار التقسيم، مع حق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ثم الشيء الثاني هو أن تنسى يهودية الدولة، لا دينية ولا طائفية، فهي بالكاد ستقبل في النظام العالمي الجديد ومنه النظام الإقليمي الجديد، أو الشرق الأوسط الجديد الذي يتشكل بالتزامن مع نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، نقول بالكاد ستقبل دولة مدنية مسالمة، لا أطماع لها في أية دولة جوار، لا في الأردن، ولا العراق، مصر، سورية ولا الحجاز، أو اليمن، كذلك أن تنسى كل ما عرفته من ثقافة وسلوك عنصري، خاصة ضد من هم من غير اليهود داخلها.
وقد كانت الأسابيع أو الأشهر وربما العام الذي مضى، رغم وصول، وربما بالرغم من وصول اليمين المتطرف للحكم في إسرائيل، مناسبة للكشف عن مستقبل دولة إسرائيل في الشرق الأوسط، الذي يتشكل، أو لا بد له أن يتشكل بعد "الربيع العربي" الذي أطاح بالنظام الإقليمي السابق، حيث كان العرب موحدين إلى درجة ما كنظام إقليمي ويشكلون أحد أضلاع المربع الإقليمي المكون، بالإضافة للعالم العربي كل من إيران وتركيا وإسرائيل. وحيث حاولت إسرائيل أن تعيد تركيبه بعد تفكيكه بضم العرب إليها دون الفلسطينيين في تحالف أمني، على قاعدة العداء لإيران سياسياً وأمنياً، والصراع مع تركيا اقتصادياً وحتى عقائدياً، بإظهار تركيا كدولة متحالفة مع الإخوان الذين وقعوا في خانة العداء للنظام العربي بأركانه الرئيسية، مصر والسعودية.
ولم تقتصر مفاجأة إسرائيل على الجانب الأمني، التي بدأت منذ فترة، بإرساء حالة الردع الفلسطيني المقاوم لها بدءاً من جنين ثم نابلس، إلى أن دخلت في المواجهة الأخيرة، حين تزامن عيد الفصح اليهودي، بأيامه الستة، مع شهر رمضان عند منتصفه تقريباً، وتجاهلت إسرائيل كل التحذيرات والمحاولات لتجنيب الساحة الفلسطينية _الإسرائيلية مواجهة دامية، لكنها ركبت رأسها بفضل التطرف الحكومي المؤثر فيها، وظهر الردع في الجانب الفلسطيني، حين لم تقتصر المواجهة على حدود القدس بمرابطيها ومعتكفي الأقصى، بل انفتحت الجبهات الأربع كلها في نفس الوقت على إسرائيل، الأمر الذي لم يحدث ربما منذ عام 1967، حين أطلقت عليها الصواريخ من غزة ولينان والجولان، فيما وقعت عملية الحمرا في الأغوار، ما أجبر إسرائيل على بلع أصابعها الطويلة والتي اعتادت على قتل كل من تطاله وحرق الأخضر واليابس في الجانب الفلسطيني.
وكانت إسرائيل قد تفاجأت قبل ذلك بعدة أسابيع من الاتفاق الإيراني السعودي، بالرعاية الصينية القاضي بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الجارتين المسلمتين، واللتين تمثلان دائماً وفي كل الأحوال اثنتين من أهم الدول المؤثرة في الشرق الأوسط، نظرا لقوتيهما الاقتصادية النفطية، وقوتيهما العسكرية، وحتى لمكانتهما الروحية لدى نحو ملياري مسلم بمذهبيهما الرئيسيين السني والشيعي. ولم تقتصر أخبار السعودية على هذا_ وهي الدولة التي بدأ بنيامين نتنياهو عهد حكومته السادسة الجديدة المشكلة منذ بداية العام الجاري، بالترويج إلى أنها ستكون الدولة التالية في مخطط التطبيع الإسرائيلي، أي دمج إسرائيل في الشرق الأوسط دون اضطرارها لدفع الثمن في الحقل الفلسطيني_ بل ذهبت بها بعيداً على طريق التقارب مع الصين، لدرجة أن مجلس وزرائها قرر قبل أيام الانضمام لمنظمة شنغهاي، وهي تكتل اقتصادي يضم دول الشرق، أي الصين وروسيا، الهند وباكستان وإيران، وشركاء الحوار تركيا ومصر وقطر.
وحقيقة الأمر أن فتح الباب واسعاً لتطبيع العلاقات بين طهران والرياض برعاية بكين، أظهر أن العملاق الصيني يتقدم بشكل حثيث، ولكن ذابت الخطى في الشرق الأوسط بعد ما حققه من ثقل ووزن في آسيا، وها هو التقارب السعودي الإيراني بالمظلة الدولية الصينية يضع حدا للصراع في اليمن، ويطفئ النار المشتعلة هناك والتي أرهقت الاقتصاد السعودي والإماراتي وأثقلت على نفوذ إيران في المنطقة، كذلك على عكس الهوى الإسرائيلي تتابعت حلقات فتح السدود التي كانت تضع الحواجز بين المحاور الإقليمية الأخرى، والتي من خلالها تسللت إسرائيل ودخلت لبعض المهاجع العربية، وكان من تلك الحلقات، فتح الباب بين الإمارات وسورية، ثم بين السعودية وسورية، وأخيراً مصر وسورية. وكانت مسألة مشاركة سورية في القمة العربية الماضية التي انعقدت قبل بضعة أشهر في الجزائر مطروحة على تلك القمة، وكانت الجزائر ترغب في توجبه الدعوة للرئيس بشار الأسد، لكن تفضيل عدم إظهار الخلاف على ذلك الأمر في القمة، أجّل تلك المشاركة التي باتت مرجحة جداً في القمة القادمة التي ستنعقد الشهر القادم في الرياض العاصمة السعودية بالذات.
لم تعد بذلك سورية وحيدة أو منعزلة، أو كيس ملاكمة للعربدة العسكرية الإسرائيلية، كذلك إغلاق جرح اليمن، يعني إغلاق شقة الصراع بين سنة وشيعة الشرق الأوسط، ويبدو أن إسرائيل قد ضربت من نفس المنطق الذي دخلت وفقه وهو المصلحة، فإذا كانت قد عقدت اتفاقيات أبراهام وفق منطق تقديم مصلحة الدول العربية التي انخرطت فيه على المصلحة القومية، فإن مصالح الدول نفسها تدفعها اليوم للتحالف اقتصاديا وحتى أمنياً، مع دول أخرى غير إسرائيل، وقد وجدت كل من الإمارات والبحرين مصلحتهما في التوجه نحو الأردن ومصر لتشكيل حلف اقتصادي، يهدف إلى خلق سوق مشترك وموحد لتستفيد منه جميع الدول الأعضاء، وبدعم كبير من صندوق أبو ظبي الاستثماري بواقع 10 مليارات دولار، وكل ذلك يعني مزيداً من عزلة إسرائيل في الشرق الأوسط.